كريتر نت – العرب – مصطفى عبيد
نجحت الجماعات الإسلامية المتطرفة في استغلال التاريخ الإسلامي لإضفاء مشروعية على العديد من جرائمها وذلك باستحضار مرويات تاريخية تشرعن للإرهاب لتستفيد بذلك من عودة رجال الدين التقليديين إلى التاريخ من أجل استعادة حوادث تركز على تسامح النبي والصحابة.
فتحت العودة إلى التاريخ أبوابا عدة للجماعات الراديكالية لانتقاء مرويات تُدلل على صواب انتهاج العنف تجاه الآخر، والرد على الكلمة أو التعبير المسيء بالقتل. واستند مُفكرو الإرهاب والسائرون في ركابهم على حكايات بعينها تحمل أوامر بالقتل أو سلوكيات عنيفة تجاه أصحاب العقائد الأخرى لتبرير الإرهاب باعتباره إحدى أدوات الدين للتمكن والانتشار.
إذا كان البعض من رجال الدين التقليديين والرسميين يلجأون إلى الرد على حوادث الإرهاب التي ينتهجها بعض المسلمين في أوروبا بحكايات تاريخية تُركز على فكرة تسامح النبي محمد (ص) والصحابة مع أصحاب الديانات الأخرى، فالخطاب الأصولي الراديكالي المضاد يلجأ إلى الحيلة ذاتها لتأكيد العكس، نازعا حكايات موروثة أخرى من سياقاتها ويقدمها لشرعنة الإرهاب.
ومن بين الحكايات الشهيرة الأكثر استخداما، حكاية الشاعر كعب بن الأشرف، المقيم في حصن بني النضير، وكان يكتب الشعر في هجاء الرسول والطعن في الإسلام. وتذهب الحكاية الواردة في كتاب “البخاري” إلى أن أنشطة كعب أهمت النبي، وحكى ذلك لأصحابه، فتطوّع أحدهم وهو محمد بن مسلمة، ومعه نفر من المسلمين وعرضوا قتله غيلة.
وتواصل رواية البخاري سرد الواقعة، إذ ذهب بن مسلمة مع بعض المسلمين في الليل إلى حصن كعب، وكان صديق بن مسلمة صديقا له في الماضي، فنادى عليه، فلما عرفه قابله، لكن فرقة الاغتيال قامت بالالتفاف حوله وقتل غدرا، ثُم عاد القتلة إلى النبي وأخبروه بما فعلوا.
المؤسف في الحكاية التاريخية أنها تؤكد غدر المسلمين، وشجاعة الضحية، الذي عبر عن رأيه بشعر فقتل، رغم أن هناك الكثير من سمات اللامنطقية في الرواية بدءا من الاختلاف حول عدد مجموعة الاغتيال، وتاريخ الواقعة، وحتى ما تضمنته بشأن تحذير زوجته له من الخروج استجابة لمن ينادونه، ورده هو عليها بأن “الكريم إذا دُعي لطعنة بليل لأجاب” وهي عبارة تمثيلية يصعب نقلها على لسان رواة الحكاية من المسلمين، لأنهم لم يشهدوا حديث كعب وزوجته له.
كما أن القول بإجازة النبي للفعل يناقض كافة تصرفاته حيال مخالفيه وخصومه، ففي مدينة الطائف تعرض النبي للإيذاء الشديد والسخرية، لكنه لم يقبل بأن يدعو عليهم، وعفا عن كفار قريش الذين قاتلوه وآذوه عندما انتصر عليهم.
المثير أن الحكاية تُستخدم، مع ذلك بوصفها دليلا دينيا لقتل غير المسلم، إذا سب الدين أو النبي، وقد أجاز ابن تيمية ذلك، وأقرته جماعات الإسلام السياسي كحكم عام لديها في العصر الحديث.
خلط متعمد
رغم كون الحكاية تاريخاً، لكن في ظل اختلاط الدين بالتاريخ، أصبح كل فعل مروي عن الأجيال الأولى حُكما مُلزما للمسلمين، مع أن الكثير من أفعال الناس في تلك الأزمنة في شؤون السياسة والحكم اختلفت، بل تناقضت أحيانا.
من الضروري تحرير الدين من هيمنة التاريخ وتقييده، واستيضاح تصوراته، وديناميكيته بعيدا عن الأطر الزمنية المحدودة، وهو ما مثّل طرحا لكثير من المفكرين الداعين إلى الإصلاح.
قال أشرف منصور، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الإسكندرية، شمال القاهرة، لـ”العرب”، إن ’’صحة أو عدم صحة الروايات التاريخية ليست هي الأساس الذي ينبغي التركيز عليه، إنما اختلاف الزمن وعدم جواز استدعاء التاريخ لصناعة أوامر أو نواهٍ دينية‘‘.
وأوضح، أنه يجب الأخذ في الاعتبار الكثير من الأمور، مثل الصراع العسكري المعاصر لكل واقعة، والسياق القتالي الذي شهد أحداثا مشابهة بين أفراد هنا وهناك، وهذه الوقائع لا تعكس منهجا دينيا،إنما تعبر عن تصرفات وسلوكيات شخوص بأعينهم لهم دوافعهم الذاتية.
وأضاف أن العالم تغير وتطور، ولم يعد السياق القتالي سائدا، بل ظهرت دولة القانون والمؤسسات وصارت الحقوق والحريات محفوظة بموجب القوانين، وصار التعامل مع المخالف أو الخارج عن القانون وفق تشريعات وآليات حضارية معروفة، بمعنى أن ما يحدث في أثناء تكوين الدول لا يصلح بالضرورة في فترات ما بعد تكوينها.
دين بديل
توجيه عقل المتلقي نحو التعامل مع النصوص القرآنية وغيرها في سياقاتها التاريخية يعد السبيل الوحيد من أجل الخروج من متاهات العنف والنجاة من جرثومة التطرف
أكد الدكتور محمد فياض أستاذ التاريخ الإسلامي المساعد بكلية الآداب جامعة طنطا، شمال القاهرة، لـ”العرب” أن “عقدة تمجيد التاريخ لدى المسلمين أدت إلى تقمص الأصوليين دين التراث والأحداث التاريخية، كدين بديل، وشتان بين الدين والتراث، سواء أكانت الأحداث حقيقية أم مفتعلة”.
وأوضح أن دين التاريخ السياسي ودين التراث نجده مزدحماً بمصطلحات مثل الجهاد، الخلافة، أهل الذمة، الجزية، السبايا، وغيرها من الكلمات التي كان من المفترض أن تختفي بفعل الزمن.وأشار فياض، إلى أن مصطلح الجهاد كان في مرحلة معينة بمثابة البلاغ المبين تحت مبدأ “خلوا بيني وبين الناس” ثم تطور الأمر إلى “جهاد الداخل” و”جهاد المعارضة السياسية”، وصولاً إلى كلمة الجهاد التي تحمل في طياتها العنف والتطرف ودماء الأبرياء.
وتابع قائلا “حدثت مزاوجة غريبة عند قتلة المفكر المصري فرج فودة عام 1992 بين واقعة اغتياله القذرة وبين تلك الحادثة السحيقة باغتيال كعب بن الأشرف، فلم يفرق أتباع قطيع الجماعات الإسلامية بين حادثة جدّت في تاريخ تأسيس الدولة الإسلامية وبين واقع المواطنة والحريات الفكرية المعاصر، حتى أن من يدعون أنهم من الوسطيين مثل الشيخ الراحل محمد الغزالي قال على المنابر قبل قتل فرج فودة بعشرة أيام «ربنا يهديهم وإن ما هداهمش يأخذهم» وبعد واقعة الاغتيال تطوع الغزالي في المحكمة ليقول إن القاتل لم يقتل إلا رجلا كافرا مستباح الدم”.
ورأى فياض، أنه من المحزن أن نبقى غارقين في تاريخ العصور الوسطى في حين تجاوزت كل شعوب العالم هذه العصور بممارستها ودمائها، لذا فإن كل حدث إرهابي حدث أو سيحدث لا يخلو من نص تاريخي كريه.
بمنهج مواز يرى الدكتور أحمد صبحي منصور المفكر الإصلاحي، أن هناك فرقا كبيرا بين الإسلام كدين سماوي وحقائقه وأوامره ونواهيه، وبين التاريخ وما يقدمه من حكايات نسبية تحتمل الصواب والخطأ.
وكشف منصور، في دراسة حديثة حذرت من سقوط الفكر الديني في مستنقع التاريخ، حيث إن الأصوليين يحولون الشخصيات التاريخية إلى كائنات مقدسة لا يجوز الاقتراب منها، ما يحول الكثير من الأمور الحياتية إلى ثوابت، وهو ما يؤدي بعد ذلك بالناس إلى الانزواء أو التحول إلى قنابل متفجرة في البشرية ومعادية للحضارة.
وأشار إلى أن الفصل بين المنهجين القرآني والتاريخي ضروري لقراءة الدين خالصا واستيعابه بعيدا عن أهواء البشر وتوجيهات الحركات السياسية، ففي المنهج القرآني، من اللازم قراءة النص دون رأي مسبق واستلهام مفاهيمه والوقوف على معانيه من خلال المعاني الواردة في الآيات الأخرى، أما المنهج التاريخي فيقوم كله على تحديد الزمان والمكان ومضمون الرواية ومدى الثقة المفترضة في كاتبها، وحاكيها، واحتمالات تغيرها.
في تصور البعض، إن الاستعانة بالمرويات التاريخية في خطاب الأصولية المبرر للعنف تجاه الآخر يعني بوضوح أن وصم جماعات الإرهاب والعنف الديني بالجهل، وهو وصف مناقض للحقيقة، لأن مُنظري الفكر الأصولي لديهم قراءات للمرويات والموروثات التاريخية المُؤيدة لتوجهاتهم وسماتهم.
إن الوقائع عديدة ومتنوعة وتحمل لأصحاب التوجهات الإرهابية دعائم قوية تدفعهم إلى إطلاق خطابات جذابة لافتة وقادرة على الوصول إلى الفئات غير المُتعمقة في الفهم، والتأثير فيها واجتذاب أفراد كثر منها.
قراءات مغلوطة
التسويق لتسامح النبي والمسلمين يتحول إلى سلاح بيد المتطرفين
في رأي حسن حماد أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب، جامعة الزقازيق، شمال شرق القاهرة، هناك جانب تاريخي في الدين، فكل دين هو جزء من تاريخ الإنسانية، ويعبر عن مرحلة محددة ويرتبط بطموحات ومصالح وأحلام وأخطاء مجموعة معينة من البشر، لكن ذلك لا يعني تحويل التاريخ إلى دين.
وفسر حماد، لـ”العرب”، أن النص القرآني نفسه إلهي من حيث المصدر، لكنه بشري من حيث الوسيط اللغوي، والفهم والتفسير والتأويل، لذا فإن تاريخ الإسلام مزدحم بالعنف والإرهاب، ومعظم خلفاء المسلمين ماتوا مقتولين.
وتابع “المشكلة هنا أننا أمام سردية تاريخية مثخنة بالقتل وبأحداث شبيهة باغتيال الشاعر كعب بن الأشرف، فضلا عن الكثير من النصوص التي تنطوي على فائض كبير من العنف”.
ويستلزم الحل توجيه عقل المتلقي للتعامل مع هذه النصوص في سياقاتها التاريخية، وبغير ذلك لن نخرج من متاهات العنف أو ننجو من جرثومة التطرف.
لكن هناك من يرون أن القضية تستلزم تفريقا واضحا بين مصطلحين أوسع ونعني بهما مصطلحي الدين والتدين، ففي رأي المفكر والباحث عبدالجواد ياسين، الدين هو المطلق، المقدس، والقادم من الله، أما التدين فهو كتلة الثقافة التاريخية المقدمة للناس داخل نطاق المقدس باعتبارها دينا، وهي ذاتها التي أدت في ما بعد إلى تفجر الصراع السياسي.
وأكد ياسين، والذي يقوم مشروعه الفكري على فصل الدين عن كافة مُلحقات البشر من تاريخ، وتطور اجتماعي، ومؤثرات بيئية، أن التدين عبر عن ذاته باستحداث نصين جديدين هما مجموعة الروايات التي استند على تسميتها بالأحاديث والروايات الأحادية المنسوبة إلى أئمة آل البيت، وعبرهما أضيفت أحكام عديدة من صنع البشر.
وعنده لا أمل في إصلاح ديني حقيقي، إلا من خلال إعادة النظر في نمط التدين من أصله، بما يعني فك الاشتباك بين الإلهي المطلق والاجتماعي التاريخي، أي بين الدين والتدين.
ومما يذكره عبدالجواد ياسين في كتابه الشهير “السلطة في الإسلام” أن العقول الإسلامية الأولى وقعت في خطأ تاريخي، لأنها تورطت في تديين الحوادث التاريخية، وأكسبتها منذ اكتمال التدوين مشروعيّة النص الثابت ذاته وقداسته، ولا يزال عقل المسلم حبيس هذه المرجعيّة حتى العصر الراهن ومبنيّاً عليها، وقضاياها المطروحة في زمنها الأول لا تزال حاضرة في الطرح الراهن للإسلام السياسي وتنظيماته الحركية على اختلافها، وهو ما يولّد فجوة بين العقل المسلم والعصر وبينه وبين العقل الإنساني بوجه عام.
ولن يُنتج الاستمرار في عرض الإسلام للعالم كما تقدمه المنظومة السلفية اللانصية المكدّسة بجبال من الفقه، والمشبعة بروح الخصومة مع العقل والتوجس من الحرية، إلا المزيد من تكريس الفصام بين الإسلام وبين العالم، وعلى المؤسسات المتبنية للإصلاح الديني الحقيقي تحرير الدين من وصاية تاريخه الإقليميّ الطويل.