كتب : إميل أمين
نهار الثالث من أكتوبر تشرين أول الجاري ، اصدر البابا فرنسيس ، رسالته البابوية العامة الجديدة والمعنونة ” كلنا أخوة “، وقد جاءت لتتناول شؤون وشجون الأخوة والصداقة الإجتماعية ، والحياة بين البشر في عالمنا المعاصر .
ولعل السؤال الأول الذي يرد على ذهن القارئ ..من أين أستقى الحبر الأعظم فكر ورؤية هذه الرسالة ؟
من الواضح جدا ان وثيقة الاخوة الإنسانية التي خرجت على العالم من أبو ظبي في فبراير من عام 2019 هي الرحم ، وبإعتراف البابا فرنسيس نفسه :” إن الذي شجعني بشكل خاص على كتابة هذه الرسالة هو شخص الإمام أحمد الطيب الذي ألتقيت به في أبو ظبي، كي نذكر العالم أن الله خلق البشر جميعا متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة ، ودعاهم للعيش كإخوة فيما بينهم” .
لم يكن ما جرى على أرض الإمارات العربية المتحدة مجرد عمل دبلوماسي في تقدير فرنسيس ، وإنما عملية تفكير تحققت عبر الحوار والعمل المشترك .
رسالة البابا العامة الجديدة تجمع وتعرض القضايا الرئيسية التي طرحت في وثيقة الأخوة الإنسانية ، كما جمع فيها البابا بلغته الخاصة ، العديد من الرسائل والمستندات مع تأملات تلقاها من العديد من الأشخاص والمجموعات حول العالم ، بحسب تعبيره ، وقلبه المنفتح على الجميع .
تحتوي الرسالة البابوية على عدد من الفصول ، في الفصل الأول يتناول البابا إشكالية ظلال العالم المغلق ، والأحلام المحطمة ، وكذا نهاية الوعي التاريخي ، ويوصف حال العالم الذي يعيش من غير مشروع مشترك ، في ظل إستعباد عالمي متعدد الاشكال ، ويتوقف عند أزمة حقوق الإنسان التي لم تصبح عالمية بشكل كاف .
أما الفصل الثاني فقد أختار له عنوان ” شخص غريب على الطريق”، ويتناول مثل ” السامري الصالح “، والهدف من وراءه الجواب عن السؤال التاريخي :” من هو قريبي “، والذي هو في نهاية الأمر كله ، كل أخ يشاركني الإنسانية .
بالوصول إلى الفصل الثالث نجد أنفسنا أمام رؤية لتخطيط العالم كي يضحى أكثر إنفتاحا مبرزا القيمة الفريدة للمحبة ، ومطالبا بمجتمعات منفتحة تدمج الجميع في إطار من الحرية ، والمساواة والأخوة.
في الفصل الرابع يتطلع فرنسيس إلى “قلب منفتح على العالم أجمع “،قلب يفهم معنى محدودية الحدود ، وقيمة الهبات المتبادلة ، وعظمة الضيافة المجانية ضمن أفق عالمي رحب .
لم يكن لفرنسيس أن ينسى أو يتناسى مسألة ” السياسة الأفضل”، ولهذا نراه يفرد لها الفصل الخامس من رسالته ، والذي يتوقف فيه أمام قضايا الشعبوية والليبرالية ، والتي ألقت بظلال كثيفة على عالمنا المعاصر .
في الفصل السادس يلفت بابا روما الى أهمية ” الحوار والصداقة الإجتماعية “،الأمر الذي يتطلب ثقافة جديدة هدفها البناء معا ،على أسس من التوافق حول الحقيقة ، وهذا لا يتحقق الإ عبر ثقافة اللقاء ، وإستحسان اللقاء بالآخر ، وإستعادة اللطف بين البشر .
والشاهد أنه لما كان العالم في حاجة إلى مسارات سلام تقود إلى إلتئام الجروح ، وهناك حاجة إلى صانعي سلام ، مستعدين للشروع في عمليات الشفاء والتلاقي ، لهذا أفرد فرنسيس الفصل السابع من رسالته لهذه القضية الجوهرية في حياة الإنسانية ، والذي جاء تحت عنوان ” مسارات التلاقي “.
هل من رؤية خاصة للسلام يقدمها أسقف روما للعالم عن السلام المعاصر ؟
يقدم فرنسيس رؤية مثيرة لما يطلق عليه ” هندسة السلام وصنعه “، وعنده إن الطريق إلى السلام لا يستلزم العمل على تجانس المجتمع ، لكنه يسمح لنا طبعا بالعمل معا . فهو يستطيع أن يجمع الكثيرين في السعي وراء بحث مشترك يستفيد منه الجميع .
هندسة السلام تعني عند صاحب الرسالة ضرورة ان تحدد بشكل جيد المشاكل التي يمر بها المجتمع ، من أجل أن نقبل وجود طرق مختلفة للنظر في الصعوبات وحلها . فالسبيل إلى تعايش أفضل يعني دائما الإعتراف بإمكانية أن يأتي الآخر بمنظور شرعي ، على الأقل جزئيا ، أي بشيئ يمكن قبوله ، حتى إذا كان قد أرتكب خطأ أو تصرف بشكل سيئ . لأنه “يجب ألا نسجن الآخر في أقواله أو أفعاله ، ولكن يجب أن نعتبره وفقا للوعد الذي يحمله في ذاته “، الوعد الذي يترك دوما بصيص أمل .
في حديثه عن السلام يخبرنا الرجل ذو الرداء الابيض أنه غالبا ما يكون هناك حاجة كبيرة إلى التفاوض ، ومن ثم إلى تطوير إمكانيات ملموسة للسلام . لكن العمليات الفعالة لتحقيق سلام دائم هي قبل كل شيئ تحولات حرفية تقوم بها الشعوب ، حيث يستطيع كل إنسان أن يكون خميرة فعالة عبر نمط حياته اليومي ، بهدف كتابة صفحة جديدة من التاريخ ، صفحة مليئة بالرجاء ومليئة بالسلام ومليئة بالمصالحة .
هذه هي هندسة السلام التي يخبرنا عنها فرنسيس ، والتي تشترك فيها مختلف مؤسسات المجتمع ، كل حسب أختصاصها .
هل من سلام بغير صفح أو مصالحة ؟
يفضل البعض عدم الحديث عن المصالحة لأنهم يعتبرون أن الصراع والعنف والإنقسامات هي جزء من الأداء الطبيعي للمجتمع ، وفي الواقع إن المغفرة والمصالحة هما موضوعان ذات أهمية كبيرة في المسيحية ، كما وفي الديانات الأخرى عبر طرائق مختلفة . أما الخطر فيكمن في عدم فهم المعتقدات بطريقة صحيحة وتقديمها بطريقة تؤدي في نهاية المطاف إلى تغذية النزعة القدرية أو الخمول أو الظلم ، أو من ناحية أخرى لتغذية التعصب والعنف .
لا تتوقف رسالة البابا عند تلخيص مبادئ المحبة الأخوية ، بل تتوقف عند بعدها العالمي ،وإنفتاحها على الجميع ، ولهذا يخبر كل قارئ بأنه يقدم هذه الرسالة الإجتماعية مساهمة متواضعة في التفكير من أجل أن نتمكن ، إزاء مختلف الطرق الحالية للقضاء على الآخرين أو لتجاهلهم ، من أن نتفاعل من خلال حلم جديد من الأخوة والصداقة الإجتماعية .
حين كان فرنسيس يكتب هذه الرسالة طفت جائحة فيروس كورونا على سطح الأرض وبشكل مفاجئ ، وسلطت الضوء على ضماناتنا البشرية الزائفة ، وأظهرت بوضوح إلى جانب الإستجابات المختلفة التي قدمتها البلدان المختلفة ، عدم المقدرة على العمل معا .
يأمل فرنسيس في نهاية الأمر أن نستطيع في هذا العصر الذي نجتازه ومن خلال الأعتراف بكرامة كل إنسان ، تجديد رغبة عالمية في الأخوة بين الجميع ، ولعل لفظة ” بين الجميع “، تدفعنا في طريق سر جميل ، كي نحلم معا ، ونجعل حياتنا مغامرة جميلة .
لا يمكن لأحد أن يواجه الحياة منعزلا .. وحدنا نرى السراب ..نحن في حاجة إلى جماعة تساندنا ، وتساعدنا …كم هو مهم أن نحلم معا بإعتبار انتمائنا إلى إنسانية واحدة ، وبإعتبارنا عابري سبيل خلقنا من اللحم البشري نفسه ، وأبناء لهذه الأرض نفسها التي تأوينا جميعا ، وكل منا يحمل غنى إيمانه وقناعاته ، وكل منا يعلو صوته بالهتاف نحو الآخر …جميعنا أخوة.
نقلا” عن العربية نت