كريتر نت – كتب : حسام عيتاني
تقول الرواية السائدة بين معارضي «حزب الله» إنه يبني دولته على أشلاء وحطام الدولة اللبنانية، وإن مشروعه يتلخص في مصادرة هذه الأخيرة وتسييرها وفق مشيئته ليحصد كل امتيازات السلطة، من دون أن يظهر في الواجهة ظهوراً يكلفه دفع ثمنين، داخلي وخارجي، باهظين.
هذا جزء من الحقيقة. الجزء الآخر أنّ تمدُّد «حزب الله» لم يكن على حساب دولة ناجزة وقام هو باختراقها وتفكيكها وتطويع مؤسساتها لخدمته. وتجارب الاستيلاء على الدولة، بكل صورها ورموزها وإمكاناتها، تشاركت فيها كل الأطراف التي كُتِبت لها في يوم ما غلبة سياسية.
يتساوى في ذلك زعماء دول عربية والمنظمات الفلسطينية والمخابرات السورية والسفراء الغربيون وقادة الأحزاب والميليشيات المحلية وصف طويل من الطفيليين والانتهازيين من مشتهي النفوذ والوجاهة وأصحاب الأغراض المتنوعة.
فالدولة اللبنانية لم تكن ذاك الكيان الأصمّ العصيّ على الخضوع للقوى الإقليمية العاتية والمحلية عندما تمتلك الشكيمة والسطوة.
بل إن تاريخ الدولة اللبنانية هو تاريخ ولاءات متبدلة وسعي إلى حمايات خارجية وتوازنات بين المكونات الأهلية اللبنانية.
باتت الممارسة هذه صريحة وعلنية في أثناء الوصاية السورية التي أدارت وأشرفت على توزيع غنائم الدولة عبر ما عُرف في تسعينات القرن الماضي بـ«الترويكا»، حيث كان ثلاثي مسيحي – سني – شيعي، يشرف على تقاسم المناصب الإدارية وتوزيع الحصص من المكاسب، حسب موازين القوى وبإشراف أجهزة المخابرات السورية التي كانت حريصة، بداهةً، على حصة دسمة من الأسلاب.
ما جرى بعد الانسحاب السوري وبعد انهيار تحالف 14 آذار هو أن «حزب الله» أراد نصيبه مباشرةً وليس عبر حركة «أمل»، حليفه في الثنائي الشيعي. واليوم، نجد أن للحزب سيطرة شبه كاملة على العديد من الوزارات وعلى الجامعة اللبنانية وعلى الإدارات العامة.
سيطرة مباشرة تسهم في بعض مشاريعه من خلال تسهيل وزارات عدة لتهربه من العقوبات الأميركية واستيراد مواد ذات استخدام مزدوج (وهذا تفسير من تفسيرات عدة عن سبب وجود تلك الكمية الضخمة من نترات الأمونيوم ذات التركيز العالي في مرفأ بيروت والتي انفجرت في الرابع من أغسطس/ آب).
بيد أن سيطرته لا تصدر عن شهوة للسلطة أو خدمة للمشروع الإمبراطوري الإيراني فحسب.
فلبنان منتجٌ نشط لمظلوميات ولتاريخ معقد ودموي يبررها.
الطائفة الشيعية هي مَن حقق القفزة النوعية الكبرى في مستوى التعليم والارتقاء الاجتماعي منذ خمسينات القرن الماضي إلى اليوم. تغيّر جذرياً موقع اللبنانيين الشيعة بعد الحرب في التمثيل السياسي.
في المقابل، ظلت هذه الطائفة، خصوصاً في امتدادها الجنوبي، تتعرض لخطر وجودي تمثله الاعتداءات الإسرائيلية التي اتخذت صفة التكرار بعد الحضور الفلسطيني أواخر الستينات وتوقيع اتفاق القاهرة بين منظمة التحرير والحكومة اللبنانية.
كان الشيعة يدفعون ثمن القضية الفلسطينية – وأقل ما يقال إن هذه من القضايا التي لا تتمتع بإجماع حولها بين شيعة الجنوب – وثمن تخلف زعمائهم الذين عاصروا الاستقلال وارتضوا بدور هامشي في المركز مقابل استقرار وجاهاتهم الموروثة.
انتهت الحرب الأهلية والشيعة يحتلون موقعاً سياسياً متقدماً بفضل تضحياتهم الهائلة في أثناء القتال الذي خاضوه على كل الجبهات؛ في الداخل وضد الاحتلال الإسرائيلي.
لكن الدولة اللبنانية التي أنتجها اتفاق الطائف كانت نسخة منقحة عما سبقها.
وعليها، إضافة إلى ذلك، أن تستقبل الوافد الشيعي الجديد، الحيوي والمطالِب بحقوق ضائعة والذي أتقن فن المناورة على طريقة الطوائف الشقيقة.
موافقة حافظ الأسد على بقاء «حزب الله» مسلحاً بعد وضع الحرب أوزارها ضمن الاتفاق السوري – الإيراني الشهير، ترك مهمة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي خارج سيطرة الدولة التي ظلت على قناعتها أنها لا تستطيع التصدي للجيش الإسرائيلي.
تولى الحزب هذه المسؤولية التي تتعارض مع أولويات بناء الدول واحتكار العنف والسيادة على الأرض.
من ناحية أخرى، لم يكن مقبولاً عند الجمهور الشيعي، خصوصاً بعد الانسحاب الإسرائيلي وبعد حرب يوليو (تموز) 2006 أن يضع سلاحه جانباً في انتظار بناء دولة وجيش يتنكبان الدفاع عنه.
ضعف الدولة من جهة واكتشاف أدوار خارجية للسلاح، من جهة أخرى، تبادلا تغذية أحدهما الآخر.
فكلما قيل إن على الدولة اللبنانية حصر السلاح بجيشها، جاء الرد أن الشيعة لا يستطيعون تحمل عودة الاحتلال الإسرائيلي وتدمير قراهم ومدنهم مرة جديدة.
.
وكلما ارتفع صوت يطالب بعدم انغماس «حزب الله» في مغامرات خارجية يظهر من يقول إن عجز الدولة اللبنانية عن ضمان أمنها هو سبب ذهاب «حزب الله» إلى سوريا وغيرها. أما في حال تجرأ أحدهم ودعا إلى نشر الجيش اللبناني وسحبه سلاح «المقاومة»، فالجواب الجاهز هو أن هذا الكلام يستبطن مؤامرة ترمي إلى إرجاع الشيعة إلى مواقعهم القديمة والقضاء على الإنجازات التي حققوها.
حتى بات الأمر كأحجية لا حل لها يطرحها من لا يجد شيئاً مفيداً يقوله أو يفعله. وبذلك تتشكل «مسألة شيعية» من أركانها ضعف الدولة اللبنانية المزمن وغير القابل للإصلاح وقدرة كل الفرقاء على انتزاع حصصهم منها وفرض شروطهم عليها، كلٌّ حسب قوته ومهارة زعامته.
تقف «المسألة الشيعية» اليوم في صميم الاستعصاء اللبناني وتشكل جزءاً من منظومة تمنع ظهور مجتمع وشعب، بالمعنى السياسي للكلمتين. ذلك أنه من المحال العثور على علاج توافقي لمظلوميات وسرديات عن القهر والتهميش لا يندر أن يعود بها أصحابها، متى أعوزتهم الحاجة، إلى أيام كربلاء.
*نقلا عن “الشرق الأوسط”