كتب : الحبيب الأسود كاتب رأي
العملية الإرهابية التي ضربت مفترق خليج الملائكة شمال مدينة سوسة التونسية، والتي استهدفت عنصرين من الحرس الوطني دهسا وطعنا، ونفذها ثلاثة إرهابيين تمت تصفيتهم بعد أقل من ساعة، تعتبر إنذارا حقيقيا بإمكانية العودة بالبلاد إلى المربع الأول من الإرهاب الذي شهدته بعد العام 2011، وانتشر في المرتفعات الغربية قبل أن يصل إلى العاصمة من خلال عمليات خطيرة لعل أبرزها اغتيال الزعيمين المعارضين شكري بلعيد ومحمد البراهمي في 2013، والهجوم على متحف باردو وتفجير حافلة الأمن الرئاسي في 2015، والهجوم المسلح على منتجع القنطاوي بسوسة في العام ذاته، ثم الهجوم على بنقردان المتاخمة للحدود المشتركة مع ليبيا في العام 2016.
أخطر ملاحظة في عملية الاثنين، أنها استهدفت عنصرين من الحرس الوطني في يوم يوافق ذكرى تأسيس الجهاز في السادس من سبتمبر 1957، وكأنها أرادت إيصال رسالة إلى رجالاته المعروفين بأنهم في الصف الأول المواجه للإرهاب رصدا وملاحقة وتحقيقا، لكن العارفين بخصوصيات الجماعات الإرهابية يدركون جيدا أنها لا تهتم كثيرا للتواريخ والذكريات، وبالتالي، إن ثبت أنها كانت تعني رمزية الموعد، فذلك يعني أن وراءها أطرافا تحركها، وهو أمر ليس مستبعدا، خصوصا عندما يغمز الرئيس قيس سعيد من قناة قوى معينة بالقول إن من يعتقد أنه سيسقط الدولة بالإرهاب مريض وواهم.
لعل مشكلة تونس الحقيقية أن مساحة الفوضى منذ أكثر من تسع سنوات تحت مسمى الديمقراطية، أعطت للإرهاب مجالا واسعا كي يعبر عن ثقافته، وتجند الكثير من السياسيين والحقوقيين وناشطي المجتمع المدني للدفاع عن المتطرفين وعن حقهم في التعبير والدعوة والنشاط الجمعياتي، وفي تمييز أنفسهم عن بقية المجتمع وكأنهم يشكلون بذلك مجتمعا موازيا، ووصل الأمر إلى حد تجنيد الآلاف من الشبان وتصديرهم للقتال في سوريا تحت شعارات طائفية، وفي ليبيا لأهداف سياسية مرتبطة بالتمكين لمشروع الإسلام السياسي تحت غطاء المحور القطري التركي الإخواني.
ويحمل أولئك المتطرفون عداء واضحا للدولة الوطنية ورموزها وتاريخها ومنجزاتها ومشروعها الاجتماعي والثقافي، ويشتركون في ذلك مع تيارات سياسية استطاعت أن تتسلل بأصواتهم إلى البرلمان، وأن تتغلغل في مفاصل الدولة من خلال اللجان المتخصصة، وأن يصبح لها دور مهم في القرار السياسي، وخصوصا من خلال التحالف مع حركة النهضة التي كانت وفق تصريحات مسربة لزعيمها راشد الغنوشي وراء الضغط من أجل إدماج مساجين الجماعات الإرهابية في العفو العام المعلن بعد الإطاحة بنظام بن علي، رغم أن بعضهم تورط في قتل أمنيين وعسكريين في عمليات أبرزها عملية سليمان في العام 2007.
كما كانت النهضة قريبة من تلك الجماعات ومشتركة معها في رؤيتها لما بعد العام 2011، عندما حصل التحالف إقليميا بين الإخوان والجماعات الجهادية تحت مسمى الربيع العربي برعاية القوى الغربية التي لم تكن ترى مانعا من تمويل وتسليح تنظيم القاعدة في ليبيا وسوريا والدفع به إلى الجبهات مدعوما بآلاف المقاتلين متعددي الجنسيات.
إن منابع الإسلام السياسي واحدة سواء كان إخوانيا أو سلفيا جهاديا، بل إن الإخوان هم الذين كانوا وراء ظاهرة الصحوة التي برزت منذ سبعينات القرن الماضي، وتأكدت بظهور السلفية الجهادية كعملية تركيب للفكر الجهادي القطبي على المنحى السلفي المتشدد، والذي تشكل بالخصوص من خلال التيار السروري، لصاحبه الإخواني السوري دفين الدوحة، محمد سرور زين العابدين.
وكان سرور قد وجد في سنوات عمله بالتدريس في السعودية مجالا واسعا لتكريس مشروعه، في ظل أجواء كانت مواتية نتيجة الحرب الباردة وتجييش الإسلاميين لمواجهة اليسار في أكثر من بلد عربي، ثم ردا على ثورة الخميني وحرب أفغانستان، وجميعها أحداث ساهمت في تشكيل مشروع السلفية الجهادية التي كانت دائما على تجاوب عقائدي ومنهجي مع مشروع الإخوان.
لم تخلُ تونس عبر تاريخها من التشدد، ولكنه كان دائما ملائما للخصوصية المحلية، قبل أن يسحبه الإسلام السياسي إلى التصادم مع الدولة ضمن مشروع عابر للحدود، وساعدت الأموال المتدفقة من أماكن عدة، والإعلام الوافد بالخطاب التكفيري، والحروب العبثية في أفغانستان والبوسنة والعراق وسوريا وليبيا وغيرها في انتشار التطرف الذي كان خاضعا لسيطرة الدولة، رغم بعض الانفلات، قبل أن يطاح بنظام بن علي في العام 2011.
لم يكتف المنهج التكفيري بالإعلان عن نفسه، وإنما تحول إلى رصيد اعتباري لأصحابه ورعاته وداعميه، بالتزامن مع مخطط محكم لترذيل الدولة الوطنية ورموزها، بل ولتكفير مفهوم الوطنية، والتحرك ضمن مشروع أشمل اتضح لاحقا أنه مرتبط بوهم العودة إلى الخلافة في نسخة عثمانية جديدة.
في الأعوام الماضية، ومع دخول حركة النهضة معترك العمل السياسي المعلن والمشاركة في الحكم، أصبح كل خلاف أو صراع معها ينعت على أنه خلاف وصراع مع الإسلام، ورغم محاولات قياداتها النأي بنفسها عن ذلك، إلا أن الجيوش الإلكترونية في الداخل والخارج والقواعد المحسوبة عليها تصب في ذلك الاتجاه.
أدى ذلك إلى تشكيل رأي عام متشدد، بات يرى أن الدولة وأجهزتها تحارب الدين، وأن إخراج الحركة من الحكم يعبر عن عداء صارخ للهوية، كما أن أي تهمة توجه إليها بالفساد أو استغلال النفوذ أو التلاعب بمصالح الدولة إنما هي مؤامرة ضد الإسلام، تجد من يتصدى لها على نطاق واسع، وهو ما زاد من الاحتقان وأثر سلبا على مؤسسات الحكم والأمن والقضاء، ودفع ببعض المهووسين الدينيين إلى تبني الخطاب السياسي المتشنج دون فهم لسياقاته، وإنما فقط باعتباره دليلا على استهداف الإسلام.
استطاع الفكر الديني المتطرف أن يحتل موقعه في تونس، وأن يجد من يدافع عنه بقوة، وأن تصبح له أجنحة تراهن على أصواته الانتخابية وتتبني خياراته وتصدح بها من تحت قبة البرلمان، كما باتت له تمظهراته الاجتماعية التي تحتل المزيد من المساحات مع كل يوم جديد، الأمر الذي بات يشكل خطرا على المجتمع ككل، وهو ما اتضح من عملية الاثنين الماضي التي شارك فيها شقيقان غير مسجلين لدى الجهات الأمنية على أنهما من المشتبه بهما في مجال الإرهاب، بما يعني أن تجنيدهما تم حديثا.
اعتماد الإرهابيين على الدهس والطعن بالسلاح الأبيض لعنصري الحرس، يشير إلى أنهما غير مدربين على الأسلحة النارية، وفي ذلك إشارة إلى أن الخطر الحقيقي ليس في التنظيم الإرهابي، الذي تم تفكيكه بجهود المؤسستين الأمنية والعسكرية، ولكن في ثقافة الإرهاب التي تنتشر في المجتمع ولا يمكن حصر الخاضعين لتأثيرها.
انتشار ثقافة الإرهاب بات محميا بمن يرون أن الإرهابي حر في اعتناق فكره التكفيري إلى أن يرتكب جريمته، وأن الدولة ليس من حقها أن تتخذ أي إجراء لتحصين نفسها من الخطر الداهم إلى حين حصوله، وأن ما يصدر عن البعض من تهديدات واضحة بالقتل والاغتيال أو دعم الإرهاب أو التشفي من ضحاياه، يدخل ضمن نطاق حرية التعبير في دولة ديمقراطية، ويجد أصحاب هذا التوجه في دستور 2014 الملغّم، ما يبررون به مواقفهم، ويستفيدون من مواقعهم في الدولة لحماية المتهمين.
نقلا عن “العرب”