كريتر نت – العرب – أحمد حافظ
تواصل السلطات المصرية تنفيذ قرار هدم المساجد المخالفة متجاهلة الحملة الشرسة التي يشنها عليها التيار السلفي المتضرر الأول من هذا القرار الذي ينهي منافسته للدولة على الإمامة. وينظر مراقبون إلى هذا القرار على أنه خطوة مصرية جريئة في اتجاه تقليص التشدد وتجفيف منابعه.
عكس إصرار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على هدم جميع المباني المخالفة، بما فيها المساجد التي أنشئت على أراضي الدولة، حجم الصراع الرسمي مع السلفيين حول هوية الإمام الشرعي الذي يعطي لنفسه الحق المطلق في إدارة وتنظيم الشؤون الدينية، ويحدد خطوطها العريضة من حيث المباح والممنوع.
ويمكن بسهولة اكتشاف ملامح الصراع بين الطرفين عندما تتابع ردود الفعل العنيفة من جانب أنصار التيار الإسلامي عموما، والإخوان والسلفيين على نحو خاص، فقد بلغ الأمر حد وصف الحكومة المصرية بـ”الملحدة”، أو “المعادية للدين”، لأنها تتمسك بهدم المساجد المخالفة والخارجة عن سيطرتها.
لم يخف المتشددون العداء السافر لاحتكار الحكومة إدارة الملف الديني، والإصرار على تضييق الخناق على أئمة آخرين من خارج المنظومة يحاولون التغريد بعيدا عن السرب، إلى درجة أنهم أعلنوا الحرب على دار الإفتاء لمجرد أنها أفتت بأن بناء مسجد على أرض مغتصبة حرام شرعا.
اتهامات للسلطة بالإلحاد
المتشددون يتمسكون بأن تكون منابر المساجد نقطة انطلاق لاستمالة المتدينين بالفطرة
يتعامل السلفيون مع المساجد المخالفة التي لا تسيطر عليها الحكومة على أنها السبيل الوحيد للقيام بدور موازٍ للدور الذي يقوم به الإمام الشرعي، كنوع من التمرد على احتكار الحكومة إدارة الملف الديني، وما ترتب عليه من إقصاء الإسلاميين من المشهد الدعوي كليّا وبصورة رسمية.
ولأن وزارة الأوقاف ليست لديها إمكانيات مالية وبشرية تمكّنها من إحكام القبضة على جميع دُور العبادة، بما فيها المخالفة، فإن السلفيين قدموا أنفسهم للناس على أنهم الفصيل الذي يستطيع إدارة شؤون المساجد، على مستوى الإمامة والخطابة والدعوة.
صحيح أن هدف الحكومة من هدم المساجد التي أنشئت على أراضي الدولة لا يستهدف فقط فرض هيمنتها الكاملة على المشهد الديني وتكريس هوية الإمام الشرعي، لكنها تريد تغيير الإرث الثقافي والفكري لدى شريحة من الناس، تعتقد أن التدين الصحيح مكانه دور العبادة.
وهناك أكثر من نوع للمساجد المخالفة، مثل الذي يتم بناؤه على أراضٍ زراعية بغرض توصيل المرافق إليه ليعطي شرعية لصاحب الأرض في تقسيمها وبيعها كأراضٍ مخصصة للسكن، والنوع الآخر يتمثل في دور العبادة التي يتم إنشاؤها لتكون مدخلا لوضع اليد على أراضٍ في الصحراء.
الدولة المصرية أصبحت أقوى أمنيا وسياسيا من أوقات سابقة كان يمكن فيها الدخول في مساومات وعقد صفقات مع فصائل دينية
وهناك المساجد الصغيرة (الزوايا) التي تقع أسفل البنايات السكنية المخالفة، حتى يضع أصحابها الحكومة تحت ضغط الشارع وتكون مضطرة إلى توصيل الخدمات إليها، بذريعة أن العقار به دار عبادة، وثمة ما يتم بناؤه أعلى برج سكني مخالف في الارتفاعات، ويتم استغلاله بغرض الاستثمار، ووقف قرارات الإزالة، حيث يقع المسجد أعلى البناية وليس أسفلها.
ونجح شيوخ التيار السلفي في إقناع المجتمع بأن المسجد هو الانعكاس الوحيد الظاهر لصورة الإسلام؛ وأيّ جهة تحاول المساس به، فإنها تحارب الدين لنشر العلمانية والتحرر الأعمى. ولأن نحو 40 في المئة من التركيبة السكانية من الأميين، فإن الكثير منهم انساق وراء الأفكار التي اختصرت التعبّد في المكان المقدس.
ترتب على ذلك أن شريحة كبيرة من الناس لم تخف تذمرها من هدم المساجد مهما بلغت مخالفات بنائها، بل إن البعض تحدّث بنبرة طائفية على طريقة: لماذا لا يتم تقنين دور العبادة الإسلامية كما تفعل الحكومة مع الكنائس المخالفة؟ وهي نفس لغة خطاب السلفيين.
يسعى أصحاب هذا الفكر لممارسة أكبر قدر ممكن من الضغوط على الحكومة للتراجع عن قرار هدم المساجد التي تأسست على أراضي الدولة، ولو وصل الأمر إلى حد استغلال ورقة الطائفية للإيحاء بأن الحكومة ربما تتساهل مع الأقباط لمجرد أنهم أكبر الداعمين للنظام الحالي.
صراع منابر
لا مكان للتشدّد
يتعمد هؤلاء الالتفاف على الحقيقة، فالرئيس السيسي عندما تحدث عن دور العبادة المخالفة تطرق إلى المساجد والكنائس على حد سواء، وقال إن الله لا يرضى أن تؤدى فرائضه في مكان مغتصب، ولا مجال للتهاون مع أي مبنى تأسس على أراضي الدولة، مهما أثر ذلك على شعبيته شخصيا.
وقال مراقبون إن هجمة السلفيين على الحكومة في الوقت الراهن تبدو الورقة الأخيرة للدخول في مفاوضات مع الإمام الشرعي، للسماح لهم بالتواجد على الساحة الدينية، ولو كان ذلك مشروطا بخطوط حمراء، مقابل تهدئة الغاضبين على هدم المسجد ودعم قرارات الدولة في هذا الشأن.
ويرى هؤلاء أن الدولة أصبحت أقوى أمنيا وسياسيا من أوقات سابقة كان يمكن فيها الدخول في مساومات وعقد صفقات مع فصائل دينية، مقابل الحصول على دعمها، وتكريس الاعتراف بها كجهة إدارية واحدة مخول لها تنظيم النشاط الديني، وهو ما لا يفهمه السلفيون حتى اللحظة.
تعتقد دوائر سياسية وأمنية في مصر أن التوسع في المساجد المخالفة والتساهل في زيادة معدلات بنائها من شأنهما زيادة نفوذ المتشددين من خلال بناء حواضن شعبية من الشريحة السكانية التي اعتادت النظر إلى أئمة دور العبادة باعتبارهم قامات مقدسة الرأي والفكر والتوجه.
استثمر السلفيون ثورة 25 يناير 2011، وما ترتب عليها من هيمنة الإسلاميين على المشهد السياسي والتسلل إلى مفاصل الدولة، وضعف الجهاز الأمني للوصول إلى مبتغاهم
يضاف إلى ذلك أن كل مسجد يتم بناؤه بعيدا عن أعين المؤسسة الدينية يسحب البساط من تحت أقدام الإمام الشرعي الذي تمثله الحكومة، ويضيف لرصيد ونفوذ المتشددين الذين يتمسكون بأن تكون منابر هذه المساجد نقطة انطلاق لاستمالة المتدينين بالفطرة.
قال منير أديب، الباحث في شؤون جماعات الإسلام السياسي، إن تصعيد السلفيين ضد قرار هدم المساجد المخالفة محاولة لتقديم أنفسهم للناس على أنهم الفصيل الوحيد الذي يسعى للحفاظ على صورة الإسلام ولو مارس المعارضة ضد الإمام الشرعي.
وكانت عشرات المساجد التي بناها مواطنون في القرى والنجوع والعشوائيات والمناطق الحدودية من تلقاء أنفسهم، البديل الآمن لشيوخ السلفية الذين أقصتهم وزارة الأوقاف من مساجدها، وحرمتهم من الإمامة والخطابة فيها، ثم قررت بعدها عدم فتح الزوايا والمساجد الأهلية نهائيا.
أزمة قديمة
شيوخ المساجد يصرون على تجاوز الخطوط الحمراء التي تحددها وزارة الأوقاف
يصر شيوخ هذه المساجد على تجاوز الخطوط الحمراء التي تحددها وزارة الأوقاف كممثلة للإمام الشرعي في تنظيم دور العبادة، فتراهم يتمردون على الخطبة المكتوبة، ويقدمون أنفسهم للناس على أنهم رجال فتوى. وصاروا بالنسبة إلى الشريحة السكانية التي تعيش في المنطقة الواقع فيها المسجد، المؤسسة الدينية الموازية.
بدأ صراع الحكومة والسلفيين على أحقية الإمام الشرعي في إدارة الملف الديني أواخر عهد الرئيس أنور السادات، وتحديدا عندما كان زكريا البري وزيرا للأوقاف، حين قال عبارته الشهيرة “معدلات بناء المساجد العشوائية لم تشهدها مصر من قبل، وحان وقت إدارة منظومة الدين من جانب الدولة”.
مع بدايات عصر الرئيس الراحل حسني مبارك، في بداية الثمانينات، أسند ملف متابعة المساجد وفرض هيمنة الحكومة عليها للجهاز الأمني.
صحيح أنه لم يتم إقصاء السلفيين بشكل كلّي، لكن تم تحديد سقف لهم؛ فمن كان يعترف بأن السلطة لها حقوق الإمام الشرعي يُسْمَحُ له بالإمامة والخطابة، أما من يتمرد على هذا الشرط فلا يتم السماح له بصعود المنبر.
عشرات المساجد التي بناها مواطنون في القرى والنجوع والعشوائيات والمناطق الحدودية من تلقاء أنفسهم كانت البديل الآمن لشيوخ السلفية الذين أقصتهم وزارة الأوقاف من مساجدها
استثمر السلفيون ثورة 25 يناير 2011، وما ترتب عليها من هيمنة الإسلاميين على المشهد السياسي والتسلل إلى مفاصل الدولة، وضعف الجهاز الأمني للوصول إلى مبتغاهم في القيام بدور أكبر في منصب الإمام الذي احتكرته الدولة لسنوات، حتى عادت الأمور إلى نصابهم بعد سقوط حكم الإخوان، وتولت الحكومة إدارة المنظومة الدينية مرة أخرى.
وأضاف منير أديب، لـ”العرب”، أن جماعات الإسلام السياسي لا تقبل بدور الحكومة كإمام يحتكر إدارة شؤون الدين، لأن هذه الجماعات ترفض نموذج الدولة الحديثة أو التطرق إلى مفاهيم المواطنة والحريات الدينية، بل تحارب من أجل العودة إلى نموذج دولة المسلمين أو تكريس إسلامية الدولة.
أصبح من الواضح أن السلفيين عندما يدعمون بناء مسجد مخالف يدركون المزايا الدينية والسياسية التي يجنونها من وراء المكان، فتراهم يتوعدون المشاركين في تأسيسه (المسجد) بالجنة لتحفيزهم على المزيد، في إطار توظيف المجتمع لدعمهم في المعركة الأبدية ضد أيّ جهة رسمية تحاول تحجيم نفوذهم وتقديم أنفسهم على أنهم “الممثل الشرعي للدين”.