صابر بليدي
تم تدمير تمثال امرأة في مدينة معسكر الواقعة بغرب الجزائر لكونها عارية بحسب البعض حيث ترتدي قميص نوم وترضع طفلها، وهذه الحادثة ليست سوى سلسلة في حلقة طويلة من عداء التماثيل والنصب التذكارية في الجزائر الذي تحول إلى تيار تغذى على أفكار المحافظين والإسلاميين ومغالطاتهم المبنية على فكر متطرف لا يستوعب الأبعاد الفنية للمعالم التي تم تشييدها بل يختزلها في رؤية ظلامية ضيقة تحولت مع الوقت من مذهب إلى تيار يتسع شيئا فشيئا.
توتر علاقة الجزائريين بالتماثيل والنصب التذكارية والمعالم الأثرية في البلاد ليس وليد زمن “أبومطرقة”، الذي شوّه تمثال امرأة سمراء ترتدي قميص نوم وترضع طفلها، في مدينة معسكر بغرب البلاد، لا ذنب لها إلا كونها عارية وبالقرب من مسجد في الحي، وإنما يعود إلى عقود مضت حيث تكاد تحتفظ كل مدينة بقصة حول تحطيم أو اختفاء تمثال من التماثيل التي كانت تزيّن ساحاتها أو تمثل معلما له أهمية تاريخية وفنية تضبط عليه المواعيد واللقاءات.
هشّم الشخص الذي أصبح يعرف في الجزائر بتسمية “أبومطرقة” في مناسبتين سابقتين نهود تمثال المرأة العارية في عين الفوارة بمدينة سطيف في شرق الجزائر.
ولم يعد “أبومطرقة ” ذلك الشاب الذي “انتقم للدين والتقاليد المحافظة” بل بات عقيدة اجتماعية وثقافية تخفي وراءها أزمة عميقة وموقفا نمطيا تجاه تماثيل ومنحوتات هذه الساحة أو ذلك الشارع، تُغذى بأفكار التطرف الديني وبالمفاهيم الخاطئة التي انبرى لها الإسلاميون والمحافظون والمزايدون في تقديس الأعراف الموروثة.
وإذا كان تشويه تمثال المرأة السمراء في مدينة معسكر خلال الأسابيع الماضية قد أعاد إلى الأذهان سيناريو المصير الذي لقيه تمثال مدينة سطيف منذ عامين، وقبله العديد من التماثيل التي تم تدميرها أو اختفت تماما في مدن ومحافظات جزائرية عديدة، فإن التخريب الذي تعرضت له جدارية فنية في العاصمة من طرف بعض الشبان المنحدرين من الوعاء السياسي الداعم للسلطة استدعى تدخل جهات حكومية لحمايتها وإعادة تشكيل تفاصيلها التي اتهمها المحافظون بحمل رموز الماسونية والانحلال الأخلاقي والمثلية.
عقدة الأنثى
وتتضارب الروايات الشعبية والتاريخية حول الأسباب الحقيقية لتوتر العلاقة بين الجزائريين والتماثيل والمعالم الأثرية، لكنها تجمع على أنها ارتبطت بمحطات تاريخية ووجدانية مستفزة للذاكرة الشعبية وللمشاعر فيما انتهت ردود الفعل المتراكمة إلى طمس جزء من ذلك التاريخ ومن تلك الذاكرة.
وإن كان “أبومطرقة” الذي انتقم لأصوليته الدينية من نهود تمثال المرأة العارية في مدينة عين الفوارة وأثار جدلا صاخبا لدى الرأي العام بين مندد ومستهجن لفعلته المشينة وبين مناصر ومتعاطف مع الرجل دفاعا عن شرف وقيم سكان المدينة، فإن تجارب مماثلة عرفتها تماثيل كثيرة في عدد من المدن الجزائرية حملت خيطا رفيعا بين إشكالات التاريخ والدين والتقاليد.
ويبدو أن السلفي، الذي هالته النهود المنحوتة على صدر تمثال لامرأة عارية عبّر عن موقف تيار ديني وأيديولوجي قريب أكثر من الغوغائية والسطحية، قد كسب أنصارا إضافيين بعد انضمام ناشطين كانوا من المتحمسين لانتخاب عبدالمجيد تبون رئيسا للبلاد رغم الرفض الشعبي له وللانتخابات لكنهم صاروا من المعادين للمعالم الفنية والتاريخية، مما يوحي بأن المسألة لم تعد تقتصر على تيار ديني معين بل تحولت إلى تيار شعبي برمته.
وإذا كانت قضية العري أو التبرج قبل أن تكون مسألة شخصية وقناعة ذاتية، تكفلها التشريعات الوضعية وتعالجها الأديان السماوية، وإذا كان الغرض حماية لغريزة ذكورية من الاستفزاز فإن اللباس المتحرر يغزو المدن والشوارع الجزائرية في كل وقت ولم يتم الانزعاج منه إلا في حالات نادرة خلال ذروة تنامي التيار الديني في مطلع تسعينات القرن الماضي، مما يفرز موقفا نمطيا من الفن بشكل عام، وعلاقة عداوة بين مخيال شعبي وبين النصب والتماثيل.
وكما أُلفت حول “أبومطرقة”، الشاب الملتحي أو التيار المعادي، القصص والنكت بعد فعلته لم يجب سكان مدن سطيف ومعسكر والعاصمة، والجزائريين عموما، عن رفاقهم الذين تخصصوا في تجارة الملابس الداخلية للنساء، أو السير في موجة سياسية أفرزت انتقالا مشوها في الجزائر، فكان الأجدر بهؤلاء الالتفات إلى عقدهم النفسية تجاه الأنثى، أو المساهمة في إنتاج نخبة حاكمة مرفوضة، قبل الهجوم على تمثال عين الفوارة، أو تماثيل معسكر أو العاصمة، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جدير به التفرغ لردع الفساد وغيره من الممارسات غير القانونية قبل الانتقام من تماثيل صماء.
وكما أُلفت حول “أبومطرقة”، الشاب الملتحي أو التيار المعادي، القصص والنكت بعد فعلته لم يجب سكان مدن سطيف ومعسكر والعاصمة، والجزائريين عموما، عن رفاقهم الذين تخصصوا في تجارة الملابس الداخلية للنساء، أو السير في موجة سياسية أفرزت انتقالا مشوها في الجزائر، فكان الأجدر بهؤلاء الالتفات إلى عقدهم النفسية تجاه الأنثى، أو المساهمة في إنتاج نخبة حاكمة مرفوضة، قبل الهجوم على تمثال عين الفوارة، أو تماثيل معسكر أو العاصمة، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جدير به التفرغ لردع الفساد وغيره من الممارسات غير القانونية قبل الانتقام من تماثيل صماء.
ومع ذلك تبقى الجينات التي ورثها الجزائريون عن “الكاهنة” التي أحرقت الأخضر واليابس، من تونس إلى طنجة، لكي لا ينعم بها جنود الفاتح الإسلامي عقبة بن نافع، بعدما استشعرت بوادر الهزيمة أمام جيشه، وقبلها الزير سالم الذي أباد قبيلة بأكملها انتقاما لمقتل أخيه، هي التي صنعت ولو نسبيا معالم هذه الشخصية، التي تحمل في طياتها بذور التمرد والاندفاع لرفض دلالات ومعاني الاستفزاز، حتى ولو كانت مجرد أوهام متراكمة من الماضي.
وكما انتفض “أبومطرقة” على تماثيل عين الفوارة ومعسكر والعاصمة سبقه آخرون في مواقف مشابهة، ففي مدينة جيجل بشرق البلاد تم محو كنيسة كانت تزيّن عمران المدينة من الوجود، لا لسبب إلا لأنها تمثل في نظر الذين سووها مع الأرض رمزا من رموز الاستعمار السياسي والديني، وفي مدينة تبسة أيضا يروى أن سكان المدينة استفاقوا ذات صباح على تمثال روماني اختفى للأبد ونسجت حوله الروايات والأساطير لا يزال يتداولونها إلى غاية الآن.
وفي العاصمة، ظل إلى وقت قريب معلم “مقام الشهيد” الذي أمر الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد بتشييده ليكون رمزا لشهداء ثورة التحرير ومعلما يزين العاصمة يلقب بـ”هُبَل” حيث يحمل الوصف لمسة الإسلاميين الذين اعتبروه رمزا من رموز الشرك وشبهوه بإله قريش. وظل الأمر على هذا الوضع إلى غاية مرحلة ما قبل العشرية الحمراء ( 1990- 2000)، حيث أجرى المجتمع الجزائري مراجعة ذاتية تجاه الكثير من المسائل خاصة لما تحول المعلم إلى رمز حقيقي للعاصمة الجزائرية وشكل هندسي وفني يوشح هضبة ضاحية المدنية.
وتبقى المواقف العدائية للجزائريين تجاه التماثيل والنصب التذكارية وليدة ردود فعل مزاجية وعدائية لمناخ مشبوه ساد وجودها، فالأهالي الذين انتفضوا ضدها بعد الاستقلال أو خلال ثورة التحرير (1954 – 1962) كان يحركهم الشعور بالانتقام نحو كل ما هو منتوج استعماري أو ما يرمز له ولم يكن عندهم أي مجال لتذوق أو استيعاب اللمسة الفنية أو التاريخية.
وكان الاندفاع والانفعالات المفرطة، قد غلبا على وجدان شعب يعشق الحرية ويمقت الاستعمار، لكنه لا يعير أهمية لتلك التركة بنفس الشكل والأهمية عندما يتعلق الأمر بالعقارات والمنازل التي تركها الفرنسيون خلفهم حينما خرجوا في 1962 رغم ما لتلك التماثيل والمعالم من رمزية تاريخية كان يمكن أن تبقى شاهدة على مرور فاشل لفرنسا على هذه البلاد كما مرت قوى استعمارية أخرى.
“أبومطرقة” بات عقيدة اجتماعية تخفي أزمة عميقة تتغذى بأفكار التطرف الديني وبالمفاهيم الخاطئة التي يروج لها الإسلاميون
وشكّل دخول تيارات دينية على خط العلاقة المتوترة مع المعالم التاريخية مرحلة أخرى من العدائية فقد تم إدراجها في خانة الرموز الشركية، فاختفت كنائس وعوضت بمساجد كترجمة لانتصار شامل على المستعمر واتلفت معالم بكاملها كما هو الشأن في محافظة البويرة “شرق العاصمة” حيث أزيح تمثال دومينيك باسيتي أول رئيس بلدية فرنسي في بلدة الأخضرية الذي قتل في 1871 في انتفاضة للأهالي ضد السلطة الجديدة وشيّد في مكانه مسجد.
وحدث نفس الأمر مع كنسية جيجل وتمثال تبسة ومعالم وهران وغيرها. وبقدر ما لبى السلوك رغبة داخلية للكثيرين، فإن المهتمين بالتاريخ يرون المسألة من زاوية أخرى ويقرون بأن المعلم أو التمثال مهما كانت خلفيته ورمزيته فهو يؤرخ لمرحلة تاريخية. وأن خير شاحذ للذاكرة هي الأدلة الملموسة، وكان بالإمكان الاحتفاظ بذلك الموروث ليكون أول من يدين الاستعمار، لأن الغاية ليس في الاحتفاظ بدور لها فالأمر حسم في هذا الشأن وإنما لنقل الرسالة للأجيال الصاعدة.
التوظيف الأيديولوجي
تتحفظ ردود فعل الشارع على بعض التماثيل والنصب بخيط متين بين ما نحت في زمن ماض وبين ما شيدته سلطة الاستقلال، فالأدلجة والرسائل السياسية من المسائل المستفزة بشكل من الأشكال للجمهور. وكانت مسارعة الحكومة لترميم تمثال عين الفوارة في مناسبتين وتخصيص غلاف مالي لذلك محل نقمة لدى الكثيرين الذين اعتبروا أن هناك أولويات أخرى قبل الاهتمام بترميم التمثال، وأبدى هؤلاء تعاطفهم مع شاب فقير قضى ثمانية أيام في بئر سقط فيها في محافظة المسيلة ولم يخرج منها إلا جثة هامدة ولم يبد خلالها المسؤولون جدية لإنقاذه، وردد هؤلاء “حياة عياش أغلى من تمثال عين الفوارة”.
يبدو أن التماثيل والقطع الفنية في الجزائر لا حظ لها مع محيطها، فقد ارتبط تشييدها في الغالب بأزمات اقتصادية واجتماعية، دفعت الغاضبين إلى التضحية أو التساؤل عن جدوى بناء “مقام الشهيد” في حين أن البلاد كانت آنذاك، في ثمانينات القرن الماضي، تحت وطأة أزمة خانقة.
ويقول باحثون في التاريخ إن السلطة تفشل في الكثير من الأحيان في تمرير الرسالة التي تريدها من وراء تشييد هذه الأعمال ولم تدرك بأن للمجسم مصداقية ونزاهة ورسالة يجب أخذها بعين الاعتبار، فقد كاد تمثال للأمير عبدالقادر في مدينة البويرة “شرق العاصمة” في السابق أن يتسبب في فتنة بين المكونين الأمازيغي والعربي، بسبب شكل التمثال الذي رآه البعض أنه يتوعدهم بسيفه.
وفي مدينة قسنطينة بشرق البلاد، لقي تمثال العلامة والمصلح الاجتماعي خلال حقبة الاستعمار عبدالحميد بن باديس مصيرا مشابها حيث تعرض للإهانة والازدراء من طرف سكان المدينة بسبب فشل النحات في التجسيد الحقيقي لتفاصيل وملامح ابن باديس. كما اعتبره كثيرون لا يعد أولوية قياسا بمعاناة المدينة من نقص الخدمات.
نقلا” عن العرب اللندنية