مروة محيي الدينِ
كاتبة مصرية
يُقصد بمصطلح أستاذية العالم في فكر الإخوان المسلمين المرحلة النهائية من مراحل الإصلاح الإسلامي الشاملة التي يتبناها مؤسس الجماعة. فقد شرح حسن البنا هذه الفكرة بأنّها سلسلة متدرجة من مراحل؛ تبدأ بـ “إصلاح الفرد، ثم بناء الأسرة، ثم إقامة المجتمع، ثم الحكومة، فالخلافة الراشدة، فأستاذية العالم”.
وفي مكان آخر يؤكد البنا أنّ الأمة الإسلامية “أمينة على رسالة الله في أرضه، ولها في العالم مرتبة الأستاذية ـ ولا نقول مرتبة السيادة ـ بحكم هذه الأمانة؛ فلا يسمح لها أن تذلّ لأحد أو تلين قناتها لغامزٍ أو تخضع لغاصبٍ معتدٍ أثيم”.
بعبارة أخرى؛ ينظر الإخوان إلى أستاذية العالم باعتبارها تحقيقاً للنبوءة الحضارية للإسلام، ودوره القيادي الأخلاقي في العالم عبر “نشر دعوة الإسلام في ربوعه”.
وفي هذا السياق تصف أدبياتهم هذه الأستاذية بأنّها تكريم عظيم للأمة الإسلامية الملتزمة بدينها، وهي تجعلها بمثابة قبلة للعالم تتجه إليها الأنظار، لتنهل من علوم الإسلام وتوجيهاته.
الأصول الفكرية للمفهوم
يُعزى أصل فكرة أستاذية العالم في أدبيات جماعة الإخوان إلى مؤسسها حسن البنا نفسه. فقد صاغ البنا هذا المبدأ كهدفٍ سامٍ ضمن رؤيته الإصلاحية، وبذلك يمثل استخدامه الأوّل في أدبيات الجماعة.
يشير الباحث ليمور لاڤي إلى أنّ هذا المفهوم “صاغه مؤسس الجماعة حسن البنا كغاية قصوى للإخوان، كمرحلة أخيرة ضمن خطة متدرجة ذات (7) مراحل، لإسلام الفرد، والأسرة، والمجتمع، والدولة، واستعادة الخلافة”. وبالتالي فإنّ أستاذية العالم تنبع بالأساس من رؤية إسلامية حركية، يرى أصحابها أنّه على الأمة المسلمة استعادة دورها المحوري في العالم.
وقد تأثر البنا في صياغة رؤيته هذه بالسياق التاريخي للانتداب البريطاني، ومحاولات الغرب السيطرة على العالم الإسلامي، وبإرث المدرسة الإصلاحية التي دعت إلى عودة الخلافة وتربية المجتمع المسلم.
وفي الوقت نفسه لا يبدو أنّ للمفهوم جذوراً مباشرة في عصور سابقة بوضوح؛ فهو يجمع بين روح القومية الإسلامية الشاملة التي تنطلق من فكرة وحدانية الرسالة الإسلامية للعالم كله، وبين مطالب النهضة والإصلاح التي سادت عصر البنا.
وبذلك ارتبط مبدأ أستاذية العالم بتأثر الإخوان بفكرة حاكمية الله في الأرض، دون أن يكون تقليداً حرفياً لمفهوم إسلامي سابق معروف، بل هو تركيب إخواني جديد لغايات الحركة الشاملة.
العلاقة بين أستاذية العالم ومفهوم الخلافة الإسلامية
يرى الإخوان أنّ استعادة الخلافة الإسلامية تمثل خطوة حاسمة في تحقيق أستاذية العالم. فقد وضع حسن البنا مراحل متسلسلة تؤدي إلى غاية الأُستاذية، تبدأ بالحكومات المحلية ثم الخلافة ثم القيادة العالمية.
وتوضح مصادر الجماعة أنّ إعادة النظام الإسلامي الموحد (الخلافة الراشدة) تُعدّ “الجسر العابر للوصول إلى الأستاذية على جميع بقاع العالم”، إذ يُنظر إلى الخلافة كإطار سياسي شرعي؛ يهيئ الأمة للقيام بدورها القيادي، وفقط من خلالها يمكن للأمة أن “تتوسع” في رقعة تأثرها العالمي.
وبهذا المعنى “وسّع البنا حدود الوطن الإسلامي ليشمل العالم، وجعل الوسيلة إلى ذلك من خلال الجهاد”.
كذلك يشدد مرشد الجماعة محمد بديع على أولوية العمل لإحياء الخلافة، باعتباره تمهيداً للأستاذية، إذ أكد ضرورة “إحياء دولة الإسلام المتمثلة في الخلافة وأستاذية العالم وتطبيق الشريعة”. ووصفها بأنّها أمور من ثوابت الجماعة وأهدافها الراسخة.
بعبارة أخرى، يرى الإخوان أنّ إعلاء كلمة الله العادلة تستلزم إقامة نظام إسلامي موحد على المستوى العالمي، فالنظام السياسي الذي يعتمد الشريعة الإسلامية، هو الأداة الشرعية التي تؤهل الأمة لممارسة دورها الريادي.
ومن ثم، فإنّ العلاقة بين الأستاذية والخلافة في الفكر الإخواني علاقة سببية: فــ”الخلافة هي المرحلة العملية التي تمهد الطريق للأمة نحو الاعتقاد بقدرتها على إرشاد الإنسانية كلها إلى نظم الإسلام الصالحة”.
أستاذية العالم والتعالي بالدين
يستتبع مبدأ أستاذية العالم في الفكر الإخواني الشعور لدى بعض أتباعه بتفوق خاص للإسلام والإسلاميين، باعتبارهم “الأمة الأمينة” على رسالة الله، ممّا يؤدي إلى الإعلاء من شأن الذات الإخوانية على حساب الآخر. هذا المفهوم يحمل كذلك نزعة فاشية متمثلة في السعي إلى هيمنة حضارية واحدة، كما وصفتها إحدى الدراسات: “أستاذية العالم هي فكرة فاشية، وهي دائماً مرهونة بالفكر المتطرف لدى حسن البنا، الذي رأى أنّه يجب على كل مسلم أن يعتقد فقط في منهج الإخوان المسلمين كليّاً”.
بعبارة أخرى، تُلزم الجماعة أتباعها بالاعتقاد بتفوق المنهج الإخواني على سائر المعارف والقيم، وتتجاهل حقَّ الشعوب الأخرى في الاختلاف أو اختيار نماذج دينية أخرى.
وهذا يتسبب في الشعور بتفوق كاذب قد يدفع البعض إلى التبجيل الذاتي والاستخفاف بالآخرين، تحت شعار “إسلامنا هو الدين الكامل الوحيد القادر على إصلاح البشرية”.
ارتباط المفهوم بالعنف والإرهاب
لطالما صاحب الترويج لمفهوم أستاذية العالم مواقف عنيفة ضمن أدبيات الإخوان، فقد جرى توظيفه كمبرّر نظري للنضال المسلح والجهاد ضد القوى “الكافرة” أو “المعتدية”.
ففي شرح تسلسل المراحل التي يعتقد الإخوان بضرورة اتباعها يجعل البنا “الجهاد” وسيلة للوصول إلى الأستاذية.
البنا عرض الفكرة في محاضراته ورسائله، مع استشهاد متكرر بآيات الجهاد دون الالتفات إلى ضوابطها، باعتبار الجهاد أوّل ركن لتحقيق الهيمنة الإسلامية.
وعلى هذا الأساس يُنظر إلى أستاذية العالم لدى الإخوان باعتبارها هدفاً مشروعاً يستوجب القتال ضدّ الغرب أو الأنظمة التي يرونها “كافرة” أو “مستبدة”، إذ يأتي تحقيقها ـ في رؤيتهم ـ بانتزاع السيطرة السياسية.
وقد تجلى ذلك تاريخياً في تشكيل تنظيم الإخوان في الأربعينيات لما يُعرف بالجهاز الخاص الذي قام بأعمال مسلحة واغتيالات.
وقد نفذت الجماعة عمليات إرهابية في بعض الدول متذرعة بمشروع إسلامي عالمي لمواجهة ما تعتبره “أعداء الله”.
ويُعبّر البنا بنفسه عن فكرته هذه بصراحة حين ذهب إلى القول: “في الوقت الذي يكون فيه منكم (300) كتيبة قد جهزت…، بسلاحكم أغزو كل عنيد جبار، فإنّي فاعل، إن شاء الله”. في إعلان ضمني بأنّ خطوة الاستيلاء على السلطة لن تكون عبر صناديق الاقتراع، بل بالقوة والعنف، بما في ذلك الانقلاب والاغتيال والتفجيرات، ومن ثم يرتبط مفهوم الأستاذية تاريخياً بمدرسة الإخوان الخاصة لتمرير خطاب جهادي دون ضوابط.
ويمكن القول: إنّ جماعة الإخوان مارست خطاباً مزدوجاً في مساعيها لتحقيق أهدافها الكبرى، من ضمنها أستاذية العالم. فبينما تعلن الجماعة في خطاباتها العلنية الالتزام بالقوانين الوطنية والبعد عن العنف، تخفي فكرة الهيمنة الإسلامية في خطابها الداخلي.
وقد اعتمدت في عملها عبر الدولة الوطنية على خطاب مزدوج حافظ على التقية سلوكاً أساسياً. فمثلاً يحظّر الخطاب الظاهر للإخوان الحديث عن السلطة أو الجهاد العنيف مع الحكومات، بينما يشيع داخل صفوفهم في الخفاء الاستعداد المعنوي لقهر الأعداء، وتجهيز النفس للموت في سبيل الله.
هذه الممارسة تعود إلى حرص الإخوان على التغلغل في المجتمع السياسي دون إثارة الريبة، بحيث تبدو كأنّها كتيبة دعوية سلمية، بينما تحتفظ بروح عالمية سرّية تسعى لإقامة دولة الخلافة والهيمنة تدريجياً، وبالتالي يفسر بعضهم دخولهم في مؤسسات الدولة العصرية على أنّه غطاء مرحلي (التقية) لانتظار الفرصة لتحقيق الأهداف الكبرى في الماضي والحاضر.
المصدر : حفريات