عبدالجبار الرفاعي
كاتب ومفكر عراقي
يحتلّ التعليم الديني اليوم مساحة واسعة من التعليم في بلدان العالم الإسلامي؛ ففي مصر فقط، أظهر أحدث “إحصاء، صدر في 4 كانون الأول (ديسمبر) 2019، عن “الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء”، وهو جهة رسمية، زيادة في عدد المعاهد الأزهرية “الابتدائي والإعدادي والثانوي”؛ إذ بلغت 65.9 ألف منشأة للعام الحالي 2018 -2019، مقابل 63.9 ألف معهد خلال عام 2017 -2018، بنسبة زيادة 3.1%” (جريدة “الشرق الأوسط”، السبت 17 شهر ربيع الثاني 1441 هـ/ 14 ديسمبر 2019مـ، رقم العدد 14991) وهذا يعني استيعاب هذا التعليم لأعداد غفيرة من الجيل الجديد، وتلقينهم المكرّرات التراثية المشحونة بكلّ ما يحفل به هذا التراث من عناصر تعمل على غلق آفاق التفكير الديني، وتعطيل عقل المسلم عن الحضور في عصره.
هناك مشكلة بنيويَّة عميقة في التعليم الديني في الإسلام، أو لنقل هناك مشكلات تاريخيَّة في بناء علوم الدين منذ نشأتها، وهي لا تختصّ بفرقة أو مذهب دون سواه، فالذي يبحث في مشكلات التعليم الديني عليه أن يعود إلى البدايات التأسيسية، ليعرف كيف تشكّلت علوم ومعارف الإسلام؛ إذ تسيّدَ علمُ الكلام الذي صاغ رؤيةَ المسلم للعالَم، وتشكّل في سياقه علمُ أصول الفقه، وعلوم الدين الأخرى، وكيف فرضَ علمُ أصول الفقه أنّ تكون السنّة مرادفةً في حجّيتها للقرآن الكريم، بل جعلها تتقدم عليه عندما وضعها في مرتبة تتحكّم فيها بدلالات آياته، بنحو خصّصت عمومياته، وقيّدت إطلاقاته، وهجرت دلالات آياته الروحية والأخلاقية، وكل ما يشي بمعانٍ قيمية فيه، بعد أن انصبّ نظرُ أصول الفقه على آيات الأحكام دون سواها.
وتحوّل علم الكلام وأصول الفقه إلى أدوات أساسية لغلق باب التفكير الديني العقلاني في الإسلام، وتعطيل عقل المسلم وانسداده، وتغييب كلّ أفقٍ جديد للتفكير في الإسلام خارج أسوار الكلام وأصول الفقه، وهذه المشكلات ورثها نظام التعليم الديني الذي كان وما يزال منذ قرون يكرّر ما قاله القدماء، ولا يخرج عن الأسوار التي صنعها المتكلمون من أئمة الفرق، وعلماء أصول الفقه المؤسسون.
لم تكن الفوارق نوعية بين نظام التعليم الديني في حواضر هذا التعليم، كالزيتونة والأزهر والجامعات الإسلاميَّة السنيّة الأخرى، أو نظام هذا التعليم في الحوزة الشيعية، هناك اختلافات، لكن يظلّ محتوى المقرّرات والكتب المتعارفة في الدراسة متقارباً في مضامينه، وهذه الاختلافات في الأعمّ الأغلب كمية وليست كيفية.
لبث علم الأديان مجهولاً في التعليم الديني، وإعادة بناء هذا التعليم، يفرض حضور علم الأديان في مراحله المتعددة، نشأ علمُ الأديان في القرن التاسع عشر، وكان لإسهامات الألماني فريدريك ماكس موللر (1832 – 1900) أثر مهمّ في تأسيسه، عندما أصدر كتاباً يحمل عنوان: “علم الأديان”، عام 1868، ومع هذا الكتاب ولد علمُ الأديان بالمعنى الذي يشير إلى “الدراسة العلمية للأديان” (الماجدي، خزعل، علم الأديان، بيروت، مؤمنون بلا حدود، ط1، 2016، ص 49). وهكذا كان لإسهامات الأنثروبولوجي الإنجليزي، إدوار تايلور (1832 – 1917)، أثر بالغ في تأسيس علم الأديان، وفي عام 1870 أصدر الفرنسي إميل بورنوف كتابه “علم الأديان” (بورنوف، إميل، علم الأديان، تعريب: د. العروسي المزوري، تونس – سوسة، دار المعارف للنشر، 2006).
هناك صلة عضوية بين علم التاريخ وعلم الأديان؛ فكلّما تطور علمُ التاريخ تطور علم الأديان؛ لأنّ عالِم الأديان يدرس ما يدرسه المؤرخ من معطيات مادية ومعنوية، وما تعكسه من معنى يحيل إلى الدين والمقدّس، سواء كانت تلك المعطيات وثائق أو أرشيفات أو كتابات ونقوش ورموز، في الأماكن المقدسة وبيوت العبادة ومطمورات المواقع الأثرية.
كما أنّ هناك صلة وثيقة بين علم الأديان ومناهج وأبحاث ونتائج الأنثروبولوجيين وعلماء الاجتماع والنفس، وفلسفة العلم، والألسنيات وعلوم التأويل، والأسطورة، التي اتسعت وتطورت وترسخت في القرنين التاسع عشر والعشرين، وأثرت تأثيراً كبيراً في علم الأديان، فتنوّعت، بسبب الإفادة منها، مجالاته، وتحددت مساراته، واتسعت مديات البحث فيه أفقياً ورأسياً؛ لذلك نجد علمَ الأديان ملتقى لعدة علوم، إنّه “يقبع عند ملتقى مباحث شتى؛ من تاريخ، وظواهرية، وعلم نفس، وعلم اجتماع، موظّفاً مناهجها، وتصنيفاتها، وأصالته النوعية أمامها، فدوره يتجاوز مختلف النظم الدينية المعروفة إلى البنى الأساسية؛ من طقوس، وأساطير، وعقائد، ورموز، لبلوغ تحليل المحتويات المعاشة من طرف الإنسان المتدين” (میشیل مسلان، علم الأديان: مساهمة في التأسيس، ترجمة: عز الدين عناية، بيروت: المركز الثّقافي العربي، 2009، ص 19 – 20).
علمُ الأديان، كأيّ علم يدرس نشأة الدين وماهيته ووظيفته، وأنماطَ تجلياته في حياة الفرد والجماعة، منذ بداية ظهور الإنسان على الأرض، ويرصد كيفيةَ تطور الحياة الدينية عبر التاريخ، وأثر الدين في الفعل البشري، وأثر الفعل البشري في الدين، وتمثّلات المقدّس، ومختلف آثاره في الحياة.
يدرس علم الأديان الدين بوصفه ظاهرة تجلّت في التاريخ البشري، وعبّرت عن نفسها من خلال الإنسان، فيهتم بالكشف عن الكيفية التي يؤثر فيها الدين في المجتمعات البشرية، والكيفية التي تؤثر فيها المجتمعات البشرية في الدين.
علمُ الأديان يتصف بكونه معرفة تنطبق على كلّ دين في العالم، وتحاول فهمَ الأثر والتأثير المتبادَل للمعتقدات الدينية، في المعارف والثقافة والآداب والفنون والاقتصاد والسياسة والأمن، وما يمكن أن يحدثه الإنسان في الدين، وما يمكن أن يحدثه الدين في حياة الإنسان، نفياً وإثباتاً.
علمُ الأديان أحد علوم الإنسان والمجتمع؛ إنّه كعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وفلسفة العلم، والألسنيات وعلوم التأويل، والتاريخ، والاقتصاد، والسياسة، وغيرها من العلوم والمعارف، وهو يعتمد على توظيف كلّ مناهج ومعطيات هذه العلوم في بلوغ أهدافه.
ليست وظيفةُ علم الأديان الخوض في إثبات أو نفي الحقائق اللاهوتية والميتافيزيقية وعوالم الغيب والآخرة، لأنّ كلَّ ذلك لا يقع في حدود العلم بالمعنى المادي، ولا يخضع لمنطقه واختباراته التجريبية. علمُ الأديان وظيفته تفسيرية، يهتمّ برصد الظاهرة الدينية في حياة البشر التي تقع في حدود البحث العلمي، فيصفها ويفسّرها، ويحلّل أسبابها، ويكشف العناصر المكوّنة لها، وما يمكن أن تنتجه هذه الظاهرة من آثار على حياة الفرد والمجتمع، دون أن يصدر هذا العلم أحكام قيمة عليها؛ لذلك يفترض أن يتصف الباحثُ في هذا العلم بالموضوعية والحياد العلمي، ويخرج الباحث في علم الأديان عن وظيفته العلمية لحظة يتورط في إصدار أحكام معيارية على الدين. علمُ الأديان يدرس دلالات الطقوس والشعائر والرموز والأساطير، وغيرها من أشكال تفاعل البشري بالإلهي، والمقدس بغير المقدس، والدنيوي بالديني، وكل تعبيرات الدين وآثاره في حياة الفرد والجماعة الإيجابية والسلبية. (میشیل مسلان، علم الأديان: مساهمة في التأسيس، ص 19-20).
إنّ تطبيقَ المناهج العلمية في دراسة كلّ الأديان وفرقها ومذاهبها ضرورة يفرضها التعرّف إلى كيفية ولادتها وصيرورتها التاريخية، والآثار المزمنة لها في الحياة البشرية. الأديان تولد في عصر مؤسّسيها، لكنّها تظلّ تتخلّق وتنمو في صيرورة لا تتصرّم عبر الزمان والمكان، في سياقات نسيجِ المتطلبات المتنوّعة لحياة الإنسان، فرداً وجماعةً، والعلاقات العضوية بين مختلف السلطات وأنماط السياسة والحكم في المجتمع.
ليست هناك ديانة أو نصّ ديني خارج طرائق عيش الإنسان وطبائع العمران، فالإنسان يخضع لمشروطيات تفرض عليه نمطَ حياته، وتؤثّر في سلوكه، وهي: العقل، المشاعر، الغرائز، الجسد، اللغة، التربية، التعليم، الثقافة، الاقتصاد، السلطة، المكان، الزمان، ولا يتجسّد الدين في حياة الإنسان إلّا تبعاً لهذه المشروطيات؛ أي أنّ فهم الدين وتفسير نصوصه يتنوّعان بتنوّع أنماط حياة الناس وطرائق عيشهم. (الرفاعي، عبد الجبار، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ص 101-102).
ولما كان علم الأديان يعتمد بشكل أساسي على علم التاريخ والفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع، فينبغي الاهتمام الشديد بهذه العلوم في مقررات التعليم الديني، وتدريسها في كلّ مراحله؛ إذ لا أفقَ لإعادة بناء التعليم الديني خارج دراسة الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة، وما دام التعليم الديني لم يخرج من حديث التراث للتراث، وحديث الآباء للآباء، وما دامت الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع لم تتخذ مكانتها المناسبة في الحياة الفكرية لمجتمعات عالم الإسلام، فلن تنبعث حركة تحديث عميقة للتفكير الديني في عالمنا.
إنّ مديات العقل أوسع من العلم، بالمعنى المتداول عند دارسي العلوم الطبيعية والتطبيقية، الذي يجري استعماله فيها بمعنى العلم بالمجال المادي. العقل يمكنه أن يفكر خارج عوالم المادة، ولا أعني أنّه يفكّر فيما هو أوطأ من مرحلة التفكير العقلاني، بل يستطيع العقل تعقّل ما هو أعلى من المعقول المحسوس، ونعني بذلك؛ أنّ العقلَ يستطيعُ تعقّل ما يتّصل بالحقائق اللاهوتية والميتافيزيقية، والدين ومدياته وخبراته الروحية العميقة. (الرفاعي، عبد الجبار، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ص 147).
ويعود الفضل للشيخ أمين الخولي في تدشين تدريس علم الأديان في الأزهر؛ ففي عام 1935 بدأ الخولي بتدريس “تاريخ الملل والنحل” في كلية أصول الدين في الأزهر، وتركز بحثُه على تعليم تلامذته كيفية دراسة الأديان وتاريخها على وفق مناهج البحث العلمي الحديث، وعدم التوقف عند الأخبار والمرويات القديمة الواردة في دراستها؛ لأنّ الآفاق الجديدة للبحث العلمي تسعى لاكتشاف تاريخ للدين خارج المسار الذي ترويه مؤلفات الملل والنحل المعروفة في التراث؛ لذلك نبّه أمين الخولي تلامذته إلى ضرورة توظيف المعطيات العلمية الحديثة في دراسة نشأة الدين، وبيان ماهيته، واكتشاف التناغم بين الدين ونمط عيش وظروف وثقافة المجتمع الذي ظهر فيه، وكيف يتحقق الدين في حياة الفرد والمجتمع، عبر التفاعل والتأثير المتبادل بينه وبين مختلف المعطيات المادية والمعنوية في بيئة نشأته، وكيف يؤثر الدين في المجتمعات وتؤثر هي فيه، وكيف ترسم أنماط عيش وظروف وثقافات المجتمعات التي تعتنقه مآلاته.
وفي بيانه لمنهجه هذا، يكتب أمين الخولي: “دراسة تاريخ الأديان تحتاج إلى مصادر أوسع، وأكثر من الرواية المنقولة والخبر المسرود، وتعتمد على تلك المصادر المادية والمعنوية اعتماد غيرها من فروع التاريخ؛ بل قد ينفسح لها المجال في بعض المصادر بأبعد وأوسع مما ينفسح لغيرها، لاتصال الشعور الديني بالحياة البشرية في مختلف أدوارها، وتأثيره في صورها المختلفة؛ فنية، وعلمية، وعملية، فلا بدّ من الرجوع إلى ما يمكن أن يوجد من تلك المصادر الصامتة، وكشفها الأكثر صدقاً، ولا بدّ من الحرص على تتبعها حيث كانت، واستخراجها تحقيقاً للدرس الصحيح” (أمين الخولي، تاريخ الملل والنحل، دراسة وتقديم: د. أحمد محمد سالم، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، 2005، ج1: ص 42. ما خلا الدراسة والتقديم للدكتور أحمد محمد سالم، فهذه الطبعة مصورة على طبعة كلية أصول الدين في الجامعة الأزهرية).
لم يتردّد الشيخ أمين الخولي في إعلان منهجه الذي ينسج على منوال المنهج العلمي الجديد في دراسة الدين، واكتشاف نشأته ومسيرته عبر التاريخ في ضوء ما يسميه “الطريقة التجريبية في درس التاريخ”؛ لأنّه “في العصور الحديثة تغير ذلك الاتجاهُ كلَّ التغير، وصارت الرواية آخر ما يلجأ إليه، وأصعب ما يعتمد عليه، لاتهامها واعتوار الضعف نواحيها، وبذلت جهود جديرة بالإكبار في استجواب الآثار، واستفسار الأنقاض والأحجار، فحُلَّتْ طلاسم اللغات القديمة التي ظلت في نظر القدماء رقىً وتعاويذ، فكان للدراسة التاريخية على تعدد مناحيها مصادر تجريبية، أو تكاد تحدث عن واقع محسوس لا يعصم عن الخطأ، لكنّه يسلم من تلاعب الأهواء وتصرّف الألسنة، وتدليس الذمم” (بحسب ما ورد في المرجع السابق، ص 41 – 42).
لكنّ محاولة أمين الخولي الرائدة في توطين علم الأديان في الأزهر لم تترسخ، ولم تأخذ نصابها الذي تستحقه في إعادة بناء التعليم الديني؛ لأنّ مثل هذه المحاولات كانت وما تزال فردية، وظلّت حتى اليوم تعبّر عن موقف يعرف جيداً بأنّه لغة العصر ومناهجه العلمية، إلا أنّه غريب على مضمون المقررات التراثية القديمة، ويعجز عن اختراق آفاقها المغلقة، وجاء تمدّد التيار السلفي واكتساحه لمؤسسات التعليم الديني ليقضي على كلّ المحاولات الجادة لإعادة بناء هذا التعليم في عالم الإسلام ويجهضها في مهدها، وما يزال الأزهر وغيره من مدارس العلم التقليدية في عالم الإسلام، تتردد فيها من حين لآخر دعوات لتجديد النظام التعليمي، غير أنّ مقرراتها التعليمية ما تزال تدور في حلقة مفرغة لا تبدأ إلا حيث تنتهي ولا تنتهي إلا حيث تبدأ، وكأنّها تعوّض إخفاقها العملي بالكلام، وهو كلام يلحّ على تجديد مقررات التعليم الديني، يقوله السياسيون ويكتبه وعّاظهم باستمرار، ولم يهتم السياسيون بذلك إلا بعد أن أضحت السلفية تهدّد وجودهم، إلا أنّ هذه الدعوات لم تنتج إلا محاولات شكلية ترقيعية، تمكث عند السطح، وتفشل في التواغل داخل البنية العميقة للتعليم الديني كي تعيد تشكيلها، وتعود أسباب فشل هذه الدعوات إلى أنّها لم تدرك بعد أنّ كلّ عملية إعادة بناء جادة تتطلب وعياً بالعصر واستيعاباً لمنطق علومه، وإتقاناً للغة معارفه، وقدرة على توظيفها في دراسة الدين وقراءة نصوصه في ضوء احتياجات عقل وروح وقلب المسلم اليوم، والإفادة منها في غربلة التراث ونخل ركامه الواسع وتفكيك مكوناته وتمحيصها.
نقلآ عن حفريات