محمد علي محسن
الراحل عبد القادر باجمال ، رئيس الوزراء الأسبق ،كان سليطي اللسان ، والنكتة تجري في دمه ، يمكن القول إنه امتلك ناصية السخرية السياسية اللاذعة .
حين زار الصين وبينما هو والوفد المرافق في زيارة لمدينة شنغهاي التجارية لم يخف دهشته وأعجابه بما رآه فقال هازئا : جئنا نسترد الحكمة المسروقة من الصينيين ” تعبيرا عن فقدان اليمنيين للحكمة اليمانية .
في احدى تجلياته الأخيرة عندما كان رئيسًا للحكومة ، قال قولة مأثورة : من لم يغن في زمن علي عبدالله صالح عمره ما غني ) .
كان القول بمثابة رصاصة الرحمة على عهد صالح ، إذ أخذت الصحف والقنوات تعيد وتكرر هذه الكلمات إلى أن رحل صالح وباجمال ، وبقيت الكلمات ومدلولاتها مستوطنة ذاكرة اليمنيين ، خالدة في ممارسات كل صاحب سطوة ونفوذ .
كان مولعيًا بالقات ، لذلك عندما نظَّمت وزارة التخطيط مؤتمرًا لمحاربة القات ، أذكر أنه حضر جلسة افتتاح المؤتمر ، واستهل كلمته بإغنية ام كلثوم : بيتعبنا ، بيسهِّرنا ، بنشتكي منه ، لكننا بنحبُّه ” حتى أنني وزميلي هاجع الجحافي اتفقنا على مانشيت واحد : باجمال يغني للقات” .
وهذه هي المرة الأولى والأخيرة التي رأيت بها الوزير الأول وجهًا لوجه ، فما أكتبه هنا مستوحى من أصدقاء عايشوه او ممَّا قرأته عنه .
كان مقيله يؤمُّه الشعراء والمثقفين والسياسيين والمنافقين أيضًا ، وأيًا كان اختلافك معه سياسيًا إلَّا أنه تمتع بسجية البوح بمكنونه ودونما تحفظ .
فمثلًا إذا كنت ضالعيًا استقبلك باهزوجة لا أعلم من ابتدعها أو نظَّمها : سنة حلوة يا مثنى ، تكبر وتعيش يا مثنى ، وتروح الجيش يا مثنى ، وتخدم في العبر يا مثنى ، وتروح موسكو يا مثنى ، وتشرب فودكا يا مثنى ، وترجع ضابط يا مثنى ، وتموت شهيد يا مثنى ، ويعلقوا صورتك يا مثنى ” . وهكذا مع بقية الندماء .
كان قارئًا نوعيًا للكتب ، ميالًا للشعر ، فإذا تحدث شخصًا ما عن تاريخ العرب في الأندلس أطلق باجمال العنان لذاكرته منتقيًا ابيات شعرية في غاية الجمال والروعة ، مضفيًا لها حلاوة اللسان الحضرمي في قرض النص الأندلسي البديع .
عندما كان وزيرًا للصناعة ومن ثم للطاقة والمعادن في حكومات الجنوب ، مطلع ومنتصف الثمانينات تواليًا ، لجأ لتبرير موقف ما أو لتفسير ما ظنه رفاقه في العمل أو الحزب ذات التوجه الاشتراكي خطأ ؛ بالاستعاضة بجمل وعبارات من رأسه ، على أساس أنها من مؤلفات لينين أو ماركس ، ويقينًا أن أحدًا عارضه أو شك فيه ، أو كلِّف ذاته عناء البحث عن الصفحة والمرجع .
ولمن لا يعلم ، فعرَّاب الليبرالية باجمال اختفى من المشهد السياسي منذ إصابته بجلطتين ( قلبية ودماغبة ) يوم ٢٦ ابريل ٢٠٠٨م ، أدتا إلى شلل نصفي في الجهة اليمنى ، دخل على إثرها في غيبوبة ، عندما كان يتواجد في سنغافورة لتسلم جائزة ( أبطال الأرض ) المقدمة من برنامج الأمم المتحدة للحفاظ على البيئة .
وبعد عامين من العلاج في سنغافورة وبريطانيا والأردن عاد إلى صنعاء ، لكنه سرعان ما غادرها إلى الأردن ، وهناك استقر إلى أن نقل للعلاج في دبي بالإمارات العربية المتحدة حيثما فارق الحياة يوم ٧ سبتمبر ٢٠٢٠م عن عمر ٧٤ عاما .
وأيًا يكن موقفنا من الرجل الذي نسب إليه ما عرف بالخصخصة للقطاع العام ، أو توقيعه لإتفاقية الحدود مع السعودية عام ٢٠٠٢م ؛ فما هو يقيني أن قضية بهذا الحجم والتعقيد يستحيل أن يقدم على خطوة بهذه الجرأة دون رضا وموافقة الرئيس صالح .
فضلا عن حمله مسؤولية تأجير ميناء عدن بسعر بخس لا يتجاوز ٧٠٠ دولار يوميًا ، أو ما يأخذ عليه خصومه بكونه أول من خصخص مقاعد التعليم العالي بما عرف تاليًا بالتعليم الموازي .
أو بسبب لسانه الذي ظل لاهجًا بمفاهيم السوق الخرة ، وفي بلد يرفل بالفقر والجهل والفساد ، أو بسبب قدحه لخصوم نظام صالح باعتباره عرابًا وأحد رجاله الثقات .
لسنا هنا بصدد تقييم تجربته الطويلة الممتدة ل٣٠ عاما ، في السلطة ، بدأها نائبا لوزير التخطيط عام ١٩٧٩م ومنتهاها شغله رئاسة وزراء اليمن لثلاث فترات متتالية ٢٠٠١ و ٢٠٠٣ و ٢٠٠٦م .
اليوم أتذكّره وأتساءل ماذا عساه قائلا في عهد الرؤساء الثمانية ؟ وكيف له وصف زمن الرئيس الأسبق عبد ربه منصور هادي ؟! .
ففي عهد هادي غني الأصحاب والاقارب والموالون ولحد أننا رأينا من يبيع الجوازات الدبلوماسية ، والقرارات الجمهورية ، ويوزع المناصب والدرجات والرتب وبشكل عبثي جعل من الموظف العادي وزيرًا ، ومن الجندي عميدًا ، ومن القريب سفيرًا .
إمَّا عهد الرئيس العليمي ، وكذا الرئيس الموازي عيدروس الزبيدي ، فحدث ولا حرج ، لقد صارت العوام تترحم على عفاش وهادي ، فالغنى الفاحش للأتباع والموالين والأقارب تعدى الحدود ، فيكفي القول أن البلد برمته تم استباحته طولًا وعرضًا .
كل هذا حدث وفي وقت تعيش فيه غالبية اليمنيين تحت خط الفقر ، وتفتك بهم أمراض الكوليرا والحُمَّيات الناتجة عن اوبئة ، وسوء تغذية ، وسواها من الأسقام التي لم تعد موجودة غير اليمن .
نعم ، عشنا وشفنا شركات وبنوك صرافة نشأت وتضخّمت في مدة أيام وأسابيع ، ورأينا قادة الصدفة يوزعون المكرمات والهبات والدرجات والمرتبات والعقارات والسيارات الفارهة والقصور السلطانية وبلا حسيب أو رقيب أو وازع ضمير .
الثائرون على ظلم نظام صالح أصبحوا أثرياء ومستثمرين وفي مدة وجيزة بمقياس اي ثروة واستثمار في العالم ؟. ودعاة المساواة والعدالة تصرفوا في موارد الداخل والخارج وبشكل وقح وعبثي غير مسبوق .
شفنا وسمعنا ما لم يخطر ببال أحد ، فهذا بلا مؤهلات ولا خبرات يتقاضى شهريا ما يكفي لإعاشة قرية أو حي سكني ، وذاك يبيع العقارات بالفدان ، والمخطط أو قطعة الأرض الواحدة بملايين الريالات السعودية .
يقابل هؤلاء القادة والموالين والأقارب أناس أفنوا عمرهم في التعليم أو الوظيفة ولا يغطي مرتبهم الضئيل قيمة كيس دقيق أو صفيحة زيت .
وعلى ما يبدو أنه وكلما تفاقمت أحوال النَّاس معيشيًا وخدميًا ، زادت شراهة النافذين ، وزادت شهوتهم للمال والسلطة .
ما هو أمر وأقسى فهو أن مجتمعنا يعاني من إنقسام عميق ، فثلة قليلة تأكل حاجة الغالبية ، وعندما يتدخل العقلاء بطلب تحقيق شيء من العدالة ، ينبري لهم الرئيس المزعوم المفتون بذاته ومقامه قائلا : الناس ليسوا سواسية ، فثمة فارق وأفضلية ما بين المهاجرين والأنصار “.
رحمة الله تغشاك يا باجمال ، عشنا وشفنا من غني في زمن غير صالح ، ومن كانوا بالأمس القريب لا يملكون لا درهمًا ولا دينارًا ، بين عشية وضحاها اصبحوا من ذوي المليارات ، ولديهم ثروة وعقارات واستثمارات أكثر مما جناه اتباع وأقارب صالح في ثلث قرن .