كريتر نت – متابعات
حظر القضاء المصري ممارسة الجمعيات الأهلية للوعظ والإرشاد الديني، ما تسبب في ارتباك شديد في صفوف قادة التيار السلفي، لأن هذا الموقف سوف يقود إلى إغلاق آخر متنفّس سياسي كان السلفيون يتسللون منه إلى الشارع، حيث استفادوا من الجمعيات الأهلية لتقديم الوعظ والإرشاد الديني الموجهين سياسيا.
وأصدرت الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة فتوى قضائية ملزمة أخيرا تحظر ممارسة منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية لنشاط الوعظ والإرشاد الديني، ردا على طلب إبداء رأي قانوني قدمته وزيرة التضامن الاجتماعي نيفين القباج إلى رئيس مجلس الدولة لوجود جمعيات أهلية تمارس النشاط الدعوي.
واستقر رأي القضاء على حتمية التفرقة بين العمل الأهلي والنشاط الديني، لأن استمرار الوعظ عبر الجمعيات الأهلية تجاوز حدود اختصاصها القانوني، وتعدى على اختصاص المؤسسات الدينية وعطل جهود الدولة في تمكين الخطاب الديني الوسطي، في إشارة غير مباشرة إلى التطرف الذي يحاول السلفيون زرعه في عقول الناس.
وأكد مجلس الدولة أنه سبق لمحكمة القضاء الإداري تبني الاتجاه بتأييد قرار وزارتي الأوقاف والتضامن بإلغاء تراخيص وغلق جميع المعاهد الخاصة بإعداد الدعاة أو تحفيظ القرآن الكريم أو القراءات أو المراكز الثقافية الإسلامية التابعة لجمعيات ومؤسسات أهلية، ولا مجال لأيّ جهة تمارس الوعظ والإرشاد الديني بلا اختصاص.
ويعد التيار السلفي أبرز المتضررين من قرار حظر الوعظ في المؤسسات الأهلية، حيث كان يستثمر غياب الرقابة الحكومية عليها ويسعى للبقاء في المشهدين الديني والسياسي بأيّ صيغة من خلال توظيف جمع التبرعات الخيرية واستمالة البسطاء ومتوسطي الدخل لتقبل خطاب دعوي قد يكون مناهضا للتوجهات الرسمية.
وظل هؤلاء يتعاملون مع الوعظ والإرشاد الديني المقدم عبر المؤسسات الأهلية على أن ذلك السبيل الوحيد للقيام بدور موازٍ للدور الذي يقوم به الإمام الشرعي، المتمثل في الأزهر ووزارة الأوقاف، كنوع من التمرّد على احتكار الحكومة لإدارة الملف الديني وما ترتب عليه من إقصاء الإسلاميين من المشهد الدعوي رسميا.
ويتاجر السلفيون بكونهم يمثلون قوة مالية كبيرة من خلال جمع أموال التبرعات التي تصل للمساجد عبر الجمعيات التابعة لهم بشكل غير مباشر، ويتم جمعها تحت مبررات كثيرة، بينها صيانة دور العبادة وشراء احتياجاتها وتزويج أبناء البسطاء والتكفل برعاية المحتاجين وشراء الأغذية للفقراء، ثم يقدمون خطابا دعويا متشددا.
وقال مؤيدون لقرار القضاء إن حظر الإرشاد الديني والوعظ على الجمعيات الأهلية ضربة موجعة لتنظيمات إسلامية تعمل في الخفاء داخل المجتمع، وتتعامل مع أموال الزكاة والتبرّعات مع الدروس التوعوية باعتبارها السبيل الأمثل لاستمالة فئات بعينها تدين بالولاء لهذه التنظيمات لأنها تقدم لهم يد العون والمساعدة ماليا ودعويا.
وعكس تحرك وزارة التضامن المصرية لإغلاق آخر المنافذ الدعوية أمام السلفيين لأيّ درجة تتمسك الحكومة بمختلف هيئاتها الرسمية أن تكون وحدها المهيمنة على المجال الدعوي وإبعاد هذا الملف عن التوظيف المشبوه لتحقيق مكاسب سياسية تحت غطاء ديني، وتدرك أن المعركة مع التيار الإسلامي بأطيافه ممتدة وتحتاج لنفس طويل.
ورغم أن القرار صادر عن القضاء، لكنه يبرهن على أن الحكومة تضع السلفيين مع الإخوان في خانة واحدة، وأن أهدافهم متقاربة، ويتطلب الخلاص من الفكر المتشدد سياسة حكيمة بعيدة عن الصدام عقب تغلغلهم في الشارع بعد انسحاب الإخوان قسرا، ونجاحهم في تكوين قواعد شعبية بالعمل الخيري واختراق المجال الدعوي.
وأصبحت يد الدولة المصرية قوية أمنيا وسياسيا ما يبعدها عن الدخول في مساومات أو عقد صفقات مع السلفيين للحصول على دعمهم، وتكريس الاعتراف بالحكومة كجهة إدارية واحدة مخول لها تنظيم النشاط الدعوي، وهو ما لا يفهمه السلفيون حتى اللحظة، حيث يتصوّرون أن الدولة قد ترخي قبضتها لاحقا.
ويرتبط التذمر الحكومي في مصر باستمرار الوجود السلفي في المشهد الخيري والدعوي حيث أنها تشعر بوجود مساعِ سلفية لمزاحمة الحكومة علاقتها بالبسطاء، وعندما تم إطلاق سلسلة مبادرات للحماية الاجتماعية لتحسين المستوى المعيشي لطبقات فقيرة نافسها سلفيون في ذلك لمآرب سياسية.
وتتمسك الحكومة بعدم وجود منافس لها في علاقتها مع الطبقات الفقيرة وهي وحدها التي تقدم لهم يد العون كجزء من مسؤوليتها، وتستطيع توظيف ذلك في كونها نجحت في المهمة بلا مساعدة من أيّ فصيل إسلامي يمكن أن يطلب منها مكافأة أو مزايا سياسية في المستقبل، لكن السلفيين تمادوا في ذلك وحاولوا استغلاله دينيا.
وترفض جماعات الإسلام السياسي القبول بدور الحكومة كإمام يحتكر إدارة شؤون الدين والدعوة، لأن هذه الجماعات ترفض نموذج الدولة الحديثة أو التطرق إلى مفاهيم المواطنة والحريات الدينية، وتحارب من أجل أسلمة الدولة، وهي نفس النبرة التي زرعها سلفيون وإخوان في أذهان شريحة من الجمهور بخطاب دعوي عاطفي جذاب.
◙ التيار السلفي أبرز المتضررين من قرار الحظر حيث كان يستثمر غياب الرقابة الحكومية عليها ويسعى للبقاء في المشهدين الديني والسياسي
وأكد الباحث في شؤون جماعات الإسلام السياسي أحمد سلطات لـ”العرب” أن توظيف الجمعيات الأهلية في المجال الدعوي يمثل خطورة سياسية، فبعض التيارات الإسلامية تعاملت مع ذلك على أنه الباب الخلفي الذي يمكّنها من استقطاب الشباب والمراهقين والوصول إلى أسرهم لإثبات المسؤولية المجتمعية والدينية وتشويه صورة الحكومة.
وأضاف أن شريحة كبيرة من التيار السلفي استثمرت جمعيات أهلية في الوعظ والإرشاد الديني بعد تقويض دورها في المشهد العام ومنعها من صعود المنابر، وحظر استغلال دور العبادة في الترويج السياسي، وقرار القضاء يغلق الباب الأخير أمام السلفيين وأيّ فصيل يسعى لنشر أفكاره المتشددة داخل المجتمع، ولو عبر المساعدات.
وتدعم هذه الخطوة مساعي حكومية اتخذت من قبل بشأن غلق معاهد الدعاة التابعة للجمعيات الشرعية، وتأميم مراكز تحفيظ القرآن في مساجد الجمعيات الشرعية والأهلية التي كان يسيطر عليها سلفيون، في حين كان الوعظ من خلال الجمعيات الأهلية آخر أمل لاستمرار الوجود السلفي في بناء قواعد شعبية.
وتدرك الحكومة أن الجيل الحالي ليست لديه الثقافة الدينية التي تؤهله للفرز بين ما يقبله أو يرفضه، وهو ما كانت تيارات متطرفة تعمل على توظيفه وتوجيه المراهقين نحو أغراضها عندما حوّلت جلسات الوعظ والإرشاد إلى نقاش حول بعض المعاني الدينية والتفسيرات السياسية لها وربطها بالواقع الحالي.
وإذا كان القضاء اتخذ قرارا بحظر ممارسة الإرشاد والوعظ إلا على المؤسسات الدينية الرسمية، فهناك معضلة ترتبط بالتماهي السياسي لقادة وعلماء دين لهم رمزية عند الحكومة مع التوجهات السلفية، ما يعطي فرصة لتشويه صورة الخطاب الدعوي الرسمي والتشكيك في أهدافه، ولذلك فالتخلص من السلفيين يحتاج إلى جهود كبيرة.
وبغض النظر عن إمكانية تحقيق ذلك سريعا، فالواضح أن الحكومة المصرية قررت أن تضع السلفيين أمام خيارين، إما أن ينخرطوا في اللعبة السياسية بشروطها المدنية، أو التلاشي كليا بعدما سُحبت منهم ورقة كانوا يستخدمونها لأغراض سياسية.