علي الصراف
التظاهرات العارمة التي تجتاح إسرائيل منذ عدة أسابيع لمعارضة “مشروع الإصلاح القضائي”، تقول إن “إسرائيل دولة ديمقراطية، وإن أعدادا ضخمة من مواطنيها يخشون الدكتاتورية، ويريدون المحافظة على سلطة القانون”.
ولكن هذه الإسرائيل نفسها، تسنّ قوانين عنصرية من دون أن يشعر “الديمقراطيون” فيها بالقلق، ولم يحدث أن قاموا باحتجاجات عارمة ضد أعمال التمييز العنصري ضد مواطنيهم الفلسطينيين، دع عنك فلسطينيي الأراضي المحتلة الأخرى. فهؤلاء تنتهك أبسط حقوقهم الإنسانية، ويتم الاستيلاء على أراضيهم وتدمّر منازلهم ومزارعهم ويهجّرون ويقتل شبان منهم كل يوم، ولا يُعاملون معاملة البشر من الأساس. وهناك سياسات رسمية، نفذها “الديمقراطيون” و”اللاديمقراطيون” في مختلف الحكومات الإسرائيلية، تبرر سياسات القمع وتحصّن مرتكبي الجرائم ضد الفلسطينيين، وتسلّح المستوطنين الذين يقيمون على أرض سرقوها بقوة… (احزر ماذا)، بقوة “القانون”!
ولو أنك قلت إنه “قانون شريعة الغاب”، فإنه لا يكفي لوصف سياسات العنف التي يُعامل بها الفلسطينيون. لأن وحوش الغابة أقل عنفا مما يفعل “الديمقراطيون” و”اللاديمقراطيون” في إسرائيل.
والهدف المعلن والذي يُطبّق بطريقة منهجية، هو أن إسرائيل الديمقراطية هذه تسعى إلى طرد الفلسطينيين من كل شبر أرض هي أرضهم. وهي تمارس ضدهم كل تلك الأعمال لتجعل حياتهم مستحيلة. وهي أرض الكنعانيين ليس بحكم المزاعم، وإنما بحكم التاريخ والآثار وأدلة هجرات ما قبل التاريخ وحروب الإمبراطوريات القديمة والوثائق والمعاهدات والقوانين الدولية الحديثة، لا بل بحكم التوراة نفسها أيضا. فلما خاطب حزقيال أورشليم قال لها: “أبوك أموري وأمك حيثية”، فملوك أورشليم عموريون و”أدوني صادق” الذي ورد ذكره في التوراة كان عموريا. ذلك الكتاب نفسه، يقول إن الأرض أرض كنعان، وإن اليهود عاشوا في أورشليم مع الكنعانيين “فلم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسط أفرايم إلى هذا اليوم” (سفر يشوع 16 على 10). ولكنهم ينتهكون حقوق الفلسطينيين على كذبة يعرفون أنها كذبة. ليسوا أغبياء إلى ذلك الحد. و”الديمقراطية” المزعومة لم تنتفض لنفسها حين ترى كيف تنتهك حقوق الآخرين، ولا عندما ترتكب الجرائم ضدهم باسم “القانون”. وهم كلهم “ديمقراطيون”، الذين يريدون إصلاح القضاء لكي يجعلوا سلطة الكنيست أعلى من سلطة المحكمة العليا، والذين لا يريدون.
فعلى أي شيء يتنازعون؟ ما الذي يُخيفهم من سلطة منتخبة تعلو سلطة أخرى تحفظ سيادة القانون؟
لا حاجة لكي تسأل: أيّ قانون؟ فالقانون المقصود هو قانون التوازنات والعلاقات فيما بينهم هم. ولكن عندما يتعلق الأمر بحقوق بشر آخرين، فلا يوجد قانون. توجد وحشية. لا بل توجد هستيريا من الوحشية يمارسها المؤيدون للإصلاح القضائي والمعارضون له.
كيف تفهم هذا الواقع؟
إذا قلت إن الديمقراطية هي نظام قيم سياسية واجتماعية، فالمرء لا يمارسها في مكان لكي ينتهكها في مكان آخر. شيء قذر من هذا النوع، ليس مألوفا منذ أن تم اختراع المفهوم، إلى هذا اليوم.
والقانون يستمد أحكامه من روح العدل والمساواة بين البشر. وإلا فان برميل قمامة أنظف مما يُسطّر.
لا حاجة إذن إلى مزاح ثقيل. القصة ليست في الواقع، لا قصة ديمقراطية ولا قصة قانون. إنها قصة أخرى تماما.
هناك أكثر من إسرائيل واحدة. تأمّل، وسترى أن إسرائيل تتألف من عدة شعوب، ولكلّ منها تصور مختلف حول كل شيء، وليس فقط حول الديمقراطية أو القانون. المتدينون والعلمانيون شعبان مختلفان. السفارديم والأشكناز شعبان آخران. يهود أوروبا ويهود روسيا شعبان متنافسان على الأقل. مستوطنو 48، ليسوا كمستوطني أراضي 67. لكل منهم تصور خاص به للأزمة وللحلول. اليمين واليسار والوسط. الليبراليون والمتشددون. هذه كلها شعوب مختلفة تتوحد ضد الفلسطينيين. ولكنها تتمزق فيما بينها، وتتصارع على السلطة والنفوذ. وفي واحد من هذه “التقاسيم” يكمن النزاع الراهن حول إصلاح القضاء.
لا علاقة للديمقراطية ولا للقانون بما يجري في إسرائيل. هناك مصالح شخصية أيضا. ولكن “الملك بيبي”، يظل في النهاية ملك شعب مختلف، انتخبه وأعاد انتخابه وسيظل ينتخبه حتى ولو ذهب إلى السجن. الفساد واللصوصية ليست جريمة كبرى في إسرائيل. واحد أو أكثر من شعوب إسرائيل هو في الأساس شعب لصوص. فلماذا يُحكم ويُدان زعيم حزب شاس آرييه درعي بجرائم فساد وسرقة وتبييض أموال؟ ما المشكلة في ذلك؟ وما المشكلة إذا تلقى نتنياهو هدايا مشبوهة، وهو الذي يسن تشريعات “تُهدي” شعب اللصوص أرضا لا يملكها، وينعم جنوده بالحرية والحصانة وهم يقتلون أبرياء كل يوم بلا حسيب ولا رقيب ولا قانون. ومن تحت أنف المحكمة العليا نفسها.
لقد تصادف، لدى تأسيس إسرائيل كمجمّع لشعوب مختلفة، أن لاحظ المؤسسون أنهم في حاجة إلى سلطة تعلو الجميع. هي المحكمة العليا، لتقيم نوعا من قانون ترعى به حقوق “الشعوب” الإسرائيلية المختلفة فلا يطغى أحد على أحد.
أعضاء المحكمة يبقون في الخدمة حتى سن السبعين. ويتم اختيار القضاة الجدد من بين كبار قضاة المحاكم المركزية وكبار المستشارين والخبراء القانونيين والمحامين، وتتولى الاختيار لجنة مؤلفة من تسعة أعضاء: ثلاثة قضاة (رئيس المحكمة العليا، وقاضيان من المحكمة المركزية)، ووزيران في الحكومة (أحدهما وزير العدل) وعضوان في الكنيست، وممثلان عن نقابة المحامين.
تحالف الشعوب الذي يدعم حكومة نتنياهو يريد تغيير نسب عضوية هذه اللجنة. ويريد أن يمنح شعوب “الأغلبية” في الكنيست سلطة يمكنها أن تنقض قرارات المحكمة العليا، بدلا من الوضع الراهن حيث تملك المحكمة الحق في أن تنقض قرارات الحكومة والكنيست.
المسألة أبعد من ذلك أيضا. غالبية أعضاء المحكمة العليا هم من اليهود الغربيين. وبالكاد أمكن في العام الماضي تعيين أربعة قضاة جدد بينهم قاض عربي – مسلم وقاضية من أصول شرقية، وهناك ثلاث نساء بين أعضائها الـ15، إحداهن الآن هي رئيسة المحكمة.
التحول الذي حصل في إسرائيل منذ أوسط الثمانينات الماضية هو أن الغلبة السياسية صارت تميل لصالح شعوب الحريديم واليهود الشرقيين والمستوطنين. وهذا ما أعاد نتنياهو إلى السلطة ست مرات، بينما بقيت المحكمة العليا تمثل شعوبا أخرى.
المسألة لا علاقة لها بالقانون ولا بالديمقراطية، ولا بالمزاح الثقيل. نوع آخر من الأكاذيب والوحشية واللصوصية يريد أن يحظى بالحصانة. هذا هو كل ما في الأمر.
نقلاً عن العرب اللندنية