مختار الدبابي
أخيرا عقد البرلمان الجديد جلسته الافتتاحية وأمكنه انتخاب رئيسه ونوابه ولجانه، وصار يمكن الآن الحديث عن برلمان شرعي ينهي فترة الفراغ التشريعي الذي خلفه قرار الرئيس سعيد بحلّ البرلمان السابق.
توحي المؤشرات الأولى التي كشفت عنها الجلسة الافتتاحية وما دار حولها من حراك أن البرلمان الجديد فيه شبه كبير من البرلمان السابق. العقلية هي نفسها، والحسابات السياسية طاغية منذ البداية. لم تكن الأزمة في حل برلمان تسيطر عليه الفوضى وتغييره ببرلمان هادئ مع نفس الجينات.
ما سبّب غضب الناس على البرلمان أنه خرج من بُعده التشريعي والرقابي وتحول إلى سوق عكاظ هذا ما كان ظاهرا في الصورة، لكن نقطة الخلاف العميقة التي دفعت إلى شيطنة البرلمان شعبيا هي أنه تحول إلى قوة معرقلة للدولة، حيث أنه فشل لسنوات بسبب تركيبته السياسية في تعطيل الكثير من مشاريع القوانين ذات البعد الاقتصادي، وساهم بشكل مباشر في الأزمة الاقتصادية الحالية.
ما سبق الجلسة الافتتاحية من حراك وتصريحات كشف عن أن البرلمان الجديد تحكمه نفس الآليات السياسية في مقاربة دور البرلمان، وهو ما بدا بشكل واضح في حديث بعض الأحزاب والمجموعات الداعمة للرئيس سعيد عن حجمها داخل البرلمان.
البرلمان الحالي يأتي ضمن نظام رئاسي، ولذلك سيكون عليه أن يحصر اهتمامه في دراسة مشاريع القوانين
وتحدث زهير المغزاوي أمين عام حركة الشعب القومية عن أن حركته لديها أكثر من ثلاثين نائبا وأنها تسعى لبناء كتلة قوية، وأنها مرشحة لأن تحصل على رئاسة البرلمان (قبل أن يحصل على هذه الرئاسة إبراهيم بودربالة لاحقا). ولاحقا، قدم عضو المكتب السياسي للحركة أسامة عويدات رقما أكثر واقعية حين تحدّث عن كتلة محترمة بين 20 و25 نائبا، وهو ما كشفته عملية الاقتراع لانتخاب رئيس البرلمان، حيث حصل مرشح الحركة بدرالدين القمودي على 19 صوتا.
وقال رئيس المكتب السياسي لحراك 25 يوليو عبدالرزاق الخلولي “خلال الدور الأول نجحنا في 10 دوائر وبنتائج الدور الثاني أصبح لدينا 86 نائبا في البرلمان”، وإن الحراك ستكون له الكتلة الأكبر.
وفي ظل مناخ استعراض القوة داخل البرلمان وسعي كل جهة لتأكيد أنها الأكبر تدخل الرئيس قيس سعيد لتصويب المشهد بتأكيده قبل أسبوع أن البرلمان الجديد ليس فيه كتل، وأن نظام الكتل صار من التاريخ.
وأضاف قيس سعيد “لن يكون البرلمان كما كان في السابق، والتشريعات يجب أن تعبّر عن الإرادة العامة، لا عن إرادة بعض الجهات التي لازالت تحنّ إلى العشرية الماضية وإلى البرلمان الماضي”.
لقد وضع الرئيس سعيد إصبعه على النقطة الحساسة في أزمة البرلمان، وفهم أن الذين ساندوه، وفيهم من فعل ذلك من باب التقية، كان هدفهم، من وراء دعمهم لقراره بحل البرلمان السابق، التخلص من خصوم أكثر وزنا وتأثيرا، والحلول مكانهم كقوة رئيسية في البرلمان الجديد، أي استبدال قوة بقوة مع بقاء نفس الآليات وبقاء الرغبة في استثمار المؤسسة التشريعية لأهداف دعائية كمحرك رئيسي من وراء دخول الانتخابات وليس أداء المهمة المطلوبة من البرلمان تقديم مشاريع قوانين ومناقشتها وتطويرها ثم المصادقة عليها لتسهيل مهمة الحكومة في معالجة أزمات البلاد.
ما تحتاجه البلاد ليس المناكفة السياسية تحت قبّة البرلمان بوجه آخر، ولكن وضع برامج كبرى تخصّ القطاعات الخدمية الكبرى مثل الصحّة والتعليم، أي الاستجابة لانتظارات الناس وليس لأجندات الأحزاب والمجموعات السياسية التي تقدم نفسها كواجهة لمشروع الرئيس سعيد فيما هي تحقق أهدافها الإستراتيجية بتأمين اختراقها للمؤسسات، وهي نفس الأجندة التي كانت تنتقدها لدى النهضة.
وخلال الجلسة الأولى بدأ استعراض “الشو” المعتاد من خلال النقاشات والصراخ، لكن التلفزيون الرسمي الذي منح لوحده (مع الوكالة الرسمية) حق التغطية قام بقطع البث المباشر لمنع وصول نفس المشاهد إلى التونسيين الذين أملوا في أن يكون البرلمان الجديد مغايرا لما سبق ودفعهم إلى مقاطعة كبيرة للانتخابات التشريعية في موقف واضح بأنهم لا يريدون برلمانا سياسيا ولكن برلمانا براغماتيا خادما للناس.
وفضلا عن تصريح الرئيس سعيد بشأن رفض الكتل وطريقة إدارة البرلمان بالمحاصصة السابقة، أرسلت السلطات رسائل دقيقة إلى النواب بشأن مسألة الحصانة التي يمكن أن تفهم على أنها تحدّ للقانون، خاصة أن النواب الحاليين وقبل انتخابهم كانوا دعّموا رفع الحصانة عمّن سبقوهم.
ومن هذه الرسائل توقيف نائب بعد أن أدى اليمين على خلفية قضية مدنية صدرت بشأنه فيها برقية تفتيش. كما تمت محاكمة نواب آخرين في قضايا تتعلق بالتجاوزات خلال الحملة الانتخابية. والرسالة واضحة أن لا حصانة للنواب إذا كان الأمر يتعلق بقضايا خارج عملهم في البرلمان، أي أن وجودهم في السلطة التشريعية لن يكون غطاء لقضايا الفساد، وأن البرلمان الحالي لن يكرّر تجربة سابقة بالتستر على فاسدين أيّا كانت وضعيتهم داعمين للرئيس أم بعيدين عنه.
ووصلت الرسالة سريعا إلى إحدى الحركات المحسوبة على وقوفها في صف الرئيس، وهي حركة الشعب، حيث قال أمينها العام إن “إيقاف النائب من وسط الجلسة رسالة سيئة ويطرح عدة نقاط على مستوى استقلالية المجلس النيابي”، مضيفا “إننا متخوفون من استقلالية البرلمان”.
ولا شك أن رسائل السلطة هدفها تهيئة النواب ليكونوا في مستوى الدور الذي تريده لهم وللبرلمان الجديد، أي لا يمكن أن يكونوا مع مقاربة قيس سعيد في حل البرلمان السابق ومؤاخذاته عليه وموقفه من الأحزاب ثم يريدون العودة إلى ما كان في السابق حيث تأخذ الأحزاب الأولوية في كل شيء، وكل يتحرك لخدمة حزبه وتثبيت مواقعه في البرلمان والحكومة ومؤسسات الدولة.
هناك اختلاف جوهري بين البرلمان السابق والبرلمان الحالي يفترض أن الذين تقدموا للانتخابات يعلمونه جيدا قبل أن يترشحوا وينافسوا ويفوزوا.
ما تحتاجه البلاد ليس المناكفة السياسية تحت قبّة البرلمان بوجه آخر، ولكن وضع برامج كبرى تخصّ القطاعات الخدمية الكبرى مثل الصحّة والتعليم
جاء البرلمان السابق ضمن مقاربة سياسية تعطي البرلمان الأولوية في السلطة والتحكم في الحكومة ومراقبتها وإقالتها، ويكون للكتل البرلمانية والتحالفات السياسية دور رئيسي في قيادة البلاد، ولذلك سمّي نظاما برلمانيا، وهو الشكل الذي لم ينجح في تونس بسبب ضعف تقاليدها الديمقراطية، وانتهازية الأحزاب، موالاة ومعارضة، بعد أن قدمت مصالحها على خدمة الانتقال الديمقراطي بوجوهه المختلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
ويأتي البرلمان الحالي ضمن نظام رئاسي، ولذلك سيكون عليه أن يحصر اهتمامه في دراسة مشاريع القوانين والمصادقة عليها أو رفضها والتعاون مع الحكومة، وإلا وجد نفسه في صدام مع المنظومة التي أفرزته، وهو بصيغته الحالية أقرب إلى مجلس استشاري، وبالتالي لن يكون بوسعه لعب دور سياسي حتى ولو كان في خدمة السلطة/الرئيس.
الحيلة التي يعتمدها البعض كغطاء للنشاط السياسي هي الإيهام بأن تحركهم خادم لمسار الرئيس وفي صالحه، لكن هذا التحرك في عمقه محاولة لكسر هيمنة الرئيس على المنظومة الجديدة بصفته المركز الوحيد والبحث عن دور ولو باللجوء إلى جلباب الرئيس.
وفي هذا السياق يمكن أن نفهم خلفية دعوة نواب “لينتصر الشعب” إلى عقد جلسة طارئة للردّ على بيان البرلمان الأوروبي الذي حمل فيه على تونس بشأن ما أسماه “الاعتقالات التعسفية”. وبقطع النظر عن نوايا هذا الحراك، فإن النتيجة ستعني فتح الباب أمام البرلمان للعب دور سياسي والتحرك في مربع السياسة الخارجية، الآن في سياق دعم الرئيس ومساره، وغدا ربما يكون في سياق آخر، وهو المسار الذي يتناقض مع مقاربة الرئيس سعيد الذي يحصر السياسة الخارجية بيده وبيد وزارة الخارجية.
وسيكون من المهم أن يفهم النواب الفارق بين الصورة القديمة التي استفادوا منها قبل أن ينقلبوا عليها وبين الصورة الجديدة، وهو فارق جوهري حتى يستمر البرلمان في لعب دوره في مربع واضح وحدود ملزمة.
نقلاً عن العرب اللندنية