كتب – عيسى نهاري
في أكتوبر 2018، استحضر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال لقاء مع مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون، رموز الشعار الوطني للولايات المتحدة الذي يجسّد نسراً أصلع يمسك بمخلبه الأيسر 13 سهماً، وبالآخر غصناً مكوناً من 13 حبة زيتون. ويظهر الرسم الذي أثار بوتين الحديث حوله رأس النسر متّجهاً إلى ناحية الزيتون، في رسالة بأن أميركا تعتبر السلام أولوية لا جدال حولها، ولكنها سوف تكون على الدوام مستعدّة للحرب.حينها، باغت سيد الكرملين، بولتون الذي كان يقود ملف انسحاب الولايات المتحدة من “معاهدة القوى النووية المتوسطة” التي تحد من التسلح النووي قائلاً، “يبدو أن النسر قد التهم حبات الزيتون، فهل الأسهم كل ما بقي”؟ فرّد مستشار دونالد ترمب المثير للجدل، قائلاً، “أرجو أنني أملك بعض الأجوبة، لكنني لم أحضر مزيداً من الزيتون”، ليردف بوتين، “هذا ما توقعته؟”.
على رغم الخلاف الدائر آنذاك بين الولايات المتحدة وروسيا حول جدوى استمرار المعاهدة النووية التي يعود تاريخها لفترة الحرب الباردة، فإن المشهد الباسم والمحتقن في آن بين بوتين وبولتون كان وليد فترة هادئة بين الكرملين والبيت الأبيض، عزّزتها سياسة الرئيس ترمب الذي كان يذكّر الجميع بأن بوتين ليس عدوّه الشخصي، وفق الكاتب جون سولومون المقرب من حلفاء الرئيس الجمهوري.
لكن وبينما كان العالم يتابع بأعين متحفّزة الدفء بين رئيسي دولتين تنظر كل واحدة للأخرى بأنها عدوّتها التقليدية، كان جورج بيب، المسؤول السابق عن التحليلات الخاصة بروسيا في الاستخبارات الأميركية يحذّر في كتابه المعنون “فخ روسيا” الذي نشر قبل سنوات من اندلاع الحرب الحالية في أوكرانيا، من تحول حرب الظل بين أميركا وروسيا إلى كارثة نووية لا تحمد عقباها.
على الرغم من التقارب بين زعيميّ الدولتين، فإن السيد بيب كان يقول إن العوامل كلها متحققة لحدوث مأساة مشابهة للحرب العالمية الأولى التي انطلقت بسبب حدث صغير وغير متوقع، محذّراً من أن ينخرط البلدان وسط تآكل قواعد ما بعد الحرب الباردة، وتنامي التقنيات المتطورة، في نسق تصعيدي يقود في النهاية إلى حرب نووية.اليوم، وبينما يستعرض الدبّ الروسي مخالبه النووية في وجه “الناتو”، ويميل رأس النسر الأميركي في أوكرانيا نحو الأسهم لا الزيتون الدالّ على السلام، تبدو تحذيرات بيب أكثر واقعيّةً وجدّية، الأمر الذي دفع “اندبندنت عربية” إلى إجراء حوار مع الرجل الذي دقّ ناقوس الخطر قبل نشوب الحرب الطاحنة في أوكرانيا.
روسيا بوتين ليست ألمانيا هتلر
يقول بيب في حوارنا الهاتفي معه، صباح الثلاثاء الماضي 17 (مايو) أيار، “كتبت الكتاب (فخ روسيا) لأحذر من أننا كنا في دوامة تصعيدية مع الروس ستستمر حدّتها ما لم يتم العمل بشكل مشترك لإيقافها”، لكن الجانبين، روسيا والغرب، اتخذا خطوات لم تزد الوضع إلا سوءاً بحسب المسؤول السابق، الذي يحذّر من أن يقود ذلك في النهاية إلى “صراع مباشر بين أكبر قوتين نوويتين في العالم”.
ويحذّر بيب، الذي عمل مستشاراً خاصاً في الشؤون الروسية لنائب الرئيس ديك تشيني، من أن الحروب لا تبدأ كلها بـ “تصميم”، ولكنها تتصاعد عبر “نسق تصعيدي” لا يشعر به الناس أو يخشونه، إلى حين وقوع الكارثة كما حدث في الحرب العالمية الأولى. ولدى سؤاله عمّا إذا كانت هذه الفكرة تنطبق على الحرب الروسية – الأوكرانية، ردَّ بإجابة قاطعة “نعم”، ثم أخذ يسترسل في تحليل الوضع.
يقول كبير محللي الشأن الروسي في الاستخبارات الأميركية سابقاً، إن الغرب مخطئ في التعامل مع الموقف في أوكرانيا كما لو كان مشابهاً للوضع في ألمانيا النازية في ثلاثينيات القرن الماضي، وذلك حين أدرك الغرب متأخراً أن لهتلر طموحات إقليمية محددة، وأن محاولة عقد صفقة معه لاسترضائه شجّعت العدوان عوضاً عن تثبيطه.ويؤكد أن ما يحدث بين روسيا وأوكرانيا “ليس حالة عدوان مخطط له” ولا “قضية دولة ذات طموحات استراتيجية كبيرة تنوي متابعتها ما لم تواجه مقاومة في الواقع”، وإنما هو “تجسيد لما يسمى بالعلاقات الدولية المعضلة الأمنية، التي تجبر بلداً أو جانباً ما على اتخاذ خطوات لتعزيز موقفه الأمني وتهديد بلد آخر ودفعه نحو الدفاع عن نفسه، مؤدياً إلى نسق تصعيدي من الفعل ورد الفعل”، ولذا من الخطأ التعامل مع الأزمة مع روسيا اليوم من وحي الدروس المستفادة من الموقف الغربي حيال ألمانيا النازية.ويرى بأن الغرب كان منخرطاً في هذا التصعيد منذ سنوات عدة وكانت الحرب في أوكرانيا نتيجة له، مشيراً إلى أن الإجراءات التي توعّد الغرب باتخاذها ضد روسيا لرفع تكلفة غزو أوكرانيا قبل حدوثه لم تمنع قيام الحرب وكان لها تأثير عكسي. ومن هذه الإجراءات، التلويح بإمكانية “ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو”، والتلويح بـ “عقوبات اقتصادية قاسية”، و”التهديد بزيادة القوات الأميركية في حلف الناتو في أوروبا”.
وفيما مارس الغرب لعبة حسابات ردع كلاسيكية، باعثاً رسالة تحذير لموسكو بأن عوائد غزو أوكرانيا لا تستحق العناء أمام تكاليفها، يقول بيب، إن “الغرب لم يدرك بأنه “يتعامل مع بلد يعتقد أنه محاصر بشكل استراتيجي، ولا يملك خياراً إلا القتال، لأن البديل هو دخول الجيش الأميركي إلى أوكرانيا على طول الحدود الروسية وتحويلها بمشاركة قوات الناتو إلى مركز عسكري مناهض لروسيا، وهو ما اعتبره الروس تهديداً خطيراً لا يمكن التسامح معه، وتكاليفه تفوق سلبيات عدم الرد من وجهة النظر الروسية”.
ونتيجةً لفشل الغرب في تشخيص التحدّي، زادت احتمالات قيام الحرب على حد رأيه، لافتاً إلى أن “كلا الجانبين مذنب، وأسهما في المشكلة، وإن كانت روسيا تتحمل النصيب الأكبر من اللوم”.
ما يحدث الآن حرب “وكالة”
لحرب الظل بين الولايات المتحدة وروسيا أبعاد عدة تتجاوز الفضاء السيبراني والهجمات الإلكترونية التي تحدث بمنأى عن عين العامة، ومن هذه الأبعاد الحرب الإعلامية ومساعي تشكيل تصوّرات الناس، والعقوبات الاقتصادية ضد روسيا التي فرضت عليها حتى قبل 2014، كتعديل جاكسون – فانيك لعام 1974، الذي استهدف الاتحاد السوفياتي والدول التي تفرض قيوداً على هجرة مواطنيها اليهود، وبقي موجوداً حتى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وأعقب ذلك عقوبات “ماغنيتسكي”، التي استهدفت مسؤولين روساً.
وهناك البعد العسكري بحسب بيب، الذي يتمثل في عمليات نشر الأسلحة الاستراتيجية والتقليدية، وقد نقل هذا البعد “حرب الظل” بين أميركا وروسيا إلى “حرب وكالة” مسرحها أوكرانيا، على حد قوله.
وتابع، “التسريبات حول مقتل جنرالات روس على يد الجيش الأوكراني بمساعدة استخباراتية أميركية تزيد من فرص شنّ موسكو هجمات انتقامية ضد الولايات المتحدة أو حلف الناتو”، مشيراً إلى أن “ما يفعله الغرب هو المراهنة على أن المساعدة العسكرية والدعم الاستخباراتي لأوكرانيا، إضافة إلى الحرب الاقتصادية كفيلة بإضعاف روسيا وإلحاق الهزيمة بجيشها”، مضيفاً أن “هناك من يأمل في أن يؤدي هذا إلى تعزيز فرص تغيير النظام في موسكو الذي سيسقط بطريقة أو أخرى”.
وحين مقاطعته عند نقطته حول فرص سقوط النظام الحالي في روسيا، قال، “ذلك ممكن، ولست متأكداً من أنه محتمل في هذه المرحلة، ولكنه ليس مستحيلاً”.
رهان الغرب يعتمد على الروس
وأوضح المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات الأميركية بأن رهان بلاده والغرب معقود على قبول الروس القواعد الأساسية لهذه المنافسة، وعلى إمكانية هزيمة روسيا بوسائل غير تقليدية، وعدم السماح للروس من الانتقام مباشرة من الولايات المتحدة أو الغرب”.
وفيما يعترف بأن فرص قبول موسكو للقواعد الأساسية لهذه اللعبة قائمة، إلا أنه يقول إنه “كلما اقترب الروس من هزيمة حقيقية في ساحة المعركة في أوكرانيا، زاد احتمال تصعيدهم، وتوسيع هذه الحرب لتشمل هجمات على حلف الناتو أو الولايات المتحدة”.
قنوات التواصل السرية: خط نووي ساخن
في العلاقات الدولية، ربما يكون التواصل مع الخصم أهم من التواصل مع الصديق، حتى ينقل الطرفان مخاوفهما، ويمنعان حدوث أي سوء فهم مميت. إبان تعاملها مع الاتحاد السوفياتي، اعتمدت الولايات المتحدة على قنوات تواصل، تباينت ما بين رسمية وغير رسمية إضافة إلى قنوات سرية لا تقلّ أهمية.
تاريخياً، تمثّلت قنوات الاتصال الرسمية بين البلدين في الاتصالات الدبلوماسية بين البيت الأبيض والكرملين، وترافق مع ذلك، حوار بين المنظمات غير الحكومية، أطرافه خبراء من الجانبين على اتصال بالحكومة ولديهم مرونة أكبر في التفكير المنفتح حول حلول مبتكرة لما أمامهم من تحديات.
وأكد المسؤول السابق في الـ “CIA” وجود “قنوات سرية” بين البلدين، كالتي تستخدمها أجهزة الاستخبارات، إضافة إلى مناقشات خلفية غير رسمية لعبت دوراً مهماً في تحسين التواصل بين البلدين، مستشهداً بدور المدعي العام الأميركي روبرت كينيدي في حل أزمة الصواريخ الكوبية، حيث كان يلتقي سراً وباستمرار السفير الروسي في واشنطن أناتولي دوبرينين، الأمر الذي أسهم في إيجاد تفاهم تاريخي مع الاتحاد السوفياتي، على أساسه جرى سحب الصواريخ من كوبا تحت إشراف الأمم المتحدة، مقابل تعهد أميركي بعدم غزو كوبا.
إلا أن الأزمة الأوكرانية أدت إلى انحسار التواصل بين الولايات المتحدة وروسيا في الأسابيع الماضية، وكشف بيب أن السفير الروسي أناتولي أنطونوف يواجه عزلة و”لا أحد يتحدث إليه في واشنطن”، معتقداً بأن الوضع نفسه ينطبق على جون سوليفان السفير الأميركي لدى موسكو.
وأضاف، “لقد تقلّص حجم الموظفين الدبلوماسيين في موسكو وواشنطن بشكل كبير، وهناك تواصل متواضع جداً بين البلدين في الوقت الحالي، وهو أمر خطير في هذه الظروف”.
وعن الخط النووي الساخن الذي أُنشئ في الستينيات لربط البنتاغون وقيادة الحزب الشيوعي السوفياتي، وتسهيل التواصل بينهما لمنع حدوث سوء فهم حال وقوع حوادث من شأنها إشعال حرب نووية، قال إن “الخط الساخن ما زال موجوداً وفعّالاً”، لكنه لا يعلم ما إن جرى استخدامه خلال الأزمة الحالية.
لماذا تخشى روسيا أوكرانيا؟
السؤال حول الأسباب التي جعلت بوتين ينخرط في حرب مباشرة مع أوكرانيا ما زال حاضراً في طاولات النقاش في غرب العالم وشرقه، ويبدو أن التنقيب في دوافع بوتين من حربه سيظل موضوعاً محفزاً للباحثين لفترة طويلة، خصوصاً عند النظر في إمكانات كييف المتواضعة أمام قوة عظمى بحجم روسيا، وكيف أنه من الغريب أن ترى الأخيرة في جارتها الصغيرة تهديداً وجودياً، هذا من جانب المقارنة بين الدولتين. أما من جانب التكلفة، فإن المخاطرة الروسية بعلاقاتها الاقتصادية التي ازدهرت في السنوات الماضية مع بعض دول أوروبا من أجل الحرب تزيد أيضاً من جدّية السؤال حول الدوافع، وأهمية عدم التسرّع في الحكم سواء القول إن أوكرانيا ليست إلا بلداً صغيراً لا يهدد موسكو أو الافتراض بأن “الناتو” يريد ابتلاع روسيا.
بالنسبة للخبير في الشأن الروسي، فإن الروس لا يعتقدون أن أوكرانيا بحد ذاتها تشكل تهديداً عسكرياً لبلادهم، لكنّهم ينظرون إليها من منظور أن تتحول إلى أداة تستخدمها الولايات المتحدة لإقلاق موسكو وأن تكون ضمن التحرك المتواصل منذ نهاية الحرب الباردة باتجاه الشرق، لافتاً إلى أن الروس تساءلوا مراراً طيلة السنوات الماضية حول سبب استمرار حلف “الناتو” في الاقتراب من الحدود الروسية.
وشدد على أن موسكو تجد في مقترح ضم أوكرانيا لـ “الناتو” أو التدخل العسكري الأميركي فيها تهديداً، وعلى الرغم من أن الولايا%A