صغير الحيدري
صحيح أن ’’السياسة فن الممكن‘‘ لكن أن تنقلب مواقف حزب سياسي ما أو جماعة ما بشكل غير متوقع من قضية خلافية أو من طرف سياسي آخر فإن ذلك يصبح مدعاة للتساؤل عن الأسباب الكامنة وراء ذلك.
منذ فترة بات الرئيس التونسي قيس سعيد، الحالم بـ’’سلطة الشعب‘‘، في مرمى نيران خصومه لاسيما الإسلاميين منهم وهم الذين حشدوا قواعدهم في الدور الثاني من انتخابات 2019 الرئاسية من أجل أن يعتلي الأستاذ الجامعي المستقل دفة الحكم.
قرب أذن الرئيس
وسط التراشق بالاتهامات والرسائل المشفرة، هناك امرأة تقف على مسافة من التيارات السياسية في بلادها، لكنها ترافق سعيد كظله، وهي المستشارة نادية عكاشة التي تشغل منصب مديرة الديوان الرئاسي الحالي في قصر قرطاج.
وبالرغم من أن عكاشة ليست لها مواقف معادية، معلنة على الأقل، حيال أي جهة سياسية إلا أنها تُتهم بأنها ’’يسارية راديكالية‘‘ وأنها سيطرت على الرئيس سعيد وتوجهه نحو الدخول في مواجهة شاملة مع الأحزاب ولاسيما حركة النهضة الإسلامية التي تخوض أصلا ’’حربا باردة‘‘ مع سعيد بدأت تظهر للعلن مع توجيه قيادات النهضة ومسؤوليها سهام نقدهم للرئيس الذي رد بدوره في خطاب متشنج الأربعاء.
لم يكن وضع سعيّد في سبتمبر الماضي كما هو عليه اليوم، فالرئيس يواجه اليوم شبح عزلة سياسية في حال اختار رئيس الحكومة الجديدة هشام المشيشي التمرد عليه والارتماء في أحضان حركة النهضة التي تخوض، رفقة المتحالفين معها في البرلمان، صراعا مريرا مع الرئيس.
وتُعدّ عكاشة الإسم الأكثر تداولا في هذا الصراع على لسان خصوم سعيد، حيث يتهمونها بكونها توجه خيارات الرئيس، وهو ما نفته مصادر موثوقة لـ”العرب” أكدت أن المستشارة بالرغم من أنها تلعب دورا هاما في قرارات القصر الرئاسي إلا أنها لا تعدو كونها مديرة للديوان الرئاسي ’’لها مواقفها وتأثيرها حسب موقعها فحسب‘‘.
عُيّنت مستشارة قانونية لدى الرئيس سعيد في الـ28 من يناير هذا العام، وهي تحمل شهادة الدكتوراه في القانون العام وتلتقي مع الرئيس في العديد من النقاط؛ أبرزها حسب مصادر مقربة من عكاشة أن الأخيرة تعرضت للعديد من العقبات في مسارها المهني والأكاديمي على غرار سرقة أطروحتها.
وسبق سعيد عكاشة في إعلان ذلك، حيث أكد في وقت سابق أنه هو الآخر تعرضت أطروحته للسرقة مشيرا إلى أنه حورب من قبل قامات كبيرة متخصصة في القانون الدستوري.
رئيس حزب قلب تونس نبيل القروي المتحالف مع حركة النهضة الإسلامية ينقل الصراع الدائر في الخفاء إلى المشهد الرسمي، حيث قال الثلاثاء الماضي، يوم منح المشيشي الثقة، “سنغير الوزراء الذين عينتهم نادية عكاشة” متهما إياها بتوجيه سياسات القصر الرئاسي ومعه خيارات رئيس الحكومة
إلى جانب ذلك، تشترك مع سعيد في مساهمتها في الندوات والمؤتمرات التوعوية بمتطلبات المرحلة الانتقالية التي تعيشها تونس منذ 2011، وهو ما قام به سعيد الذي كان في الواجهة منذ ذلك الحين في وسائل الإعلام وكان يجوب البلاد للمشاركة في فعاليات تتطرق إلى الجوانب القانونية للمرحلة الحساسة التي شهدتها تونس. وشاركت عكاشة على سبيل المثال في ندوة لحزب نداء تونس الحاكم منذ 2014 حتى 2019، في عام 2013. وهي المشاركة التي جعلتها عرضة خلال هذه الفترة لانتقادات لاذعة حيث تظهر مديرة الديوان الرئاسي ضمن ثلة من المختصين في القانون الدستوري على غرار وزير الدفاع السابق وأستاذ القانون العام فرحات الحرشاني.
وكان محور تلك الندوة قانون ”تحصين الثورة“ المثير للجدل، حيث أدلت عكاشة برأيها قائلة حسب ما نقلته وكالة الأنباء التونسية ’’قانون تحصين الثورة لا يمثل ممارسة قانونية سليمة.. هو قانون يستهدف الانتقام والإقصاء‘‘.
ويرى البعض أن عكاشة تستمد قوتها من الابتعاد عن عدسات الكاميرات، وهو شيء مألوف في الواقع التونسي، حيث يُتهم رجال أعمال وسياسيون لا أثر لهم إعلاميا بالتحكم في تفاصيل المشهد السياسي.
وعندما تبحث عن ظهور نادية عكاشة إعلاميا لن تجد لقاءً يذكر للمرأة بخلاف مرور يتيم بالإذاعة الوطنية (الرسمية) في يناير 2017. وتولت عكاشة رئاسة قسم القانون في الجامعة الدولية الخاصة بتونس بين 2017 و2019، وعملت أستاذةً مساعدةً في كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس بين 2017 و2019، وخبيرةً قانونيةً معتمدةً لدى برنامج “مؤسسة كونراد أديناور” لدعم دولة القانون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ديسمبر 2017، ومستشارةً لدى “البعثة الأوروبية لتقييم الانتخابات في ليبيا” بين يوليو ونوفمبر 2012.
وينظر العديد من الفاعلين السياسيين في تونس، لاسيما المتحالفين مع النهضة على غرار حزب قلب تونس، بتوجس إلى دور عكاشة المتنامي في المشهد السياسي حيث يعتبرون أن هذه السيدة تجهّز لصدام حقيقي مع الإسلاميين.
مثّل اختيار سعيد في يوليو الماضي المشيشي لتشكيل الحكومة الجديدة القطرة التي أفاضت الكأس بين عكاشة والأحزاب، خاصة تلك القريبة أو التي تتودد إلى النهضة مثل حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة اللذين يشكلان في البرلمان قوة ضاربة. فما يُشاع في تونس أن المشيشي أصيل نفس المنطقة التي تنحدر منها عكاشة، لذلك تربطها به صلات كبيرة ما جعله المرشح الأوفر حظا لرئاسة الحكومة مسنودا بدعم مديرة ديوان القصر.
العبث بالمشيشي
الحملة على عكاشة ضارية والاتهامات فيها متباينة
تتهم عدّة دوائر سياسيةٍ عكاشة بـ”العبث” بحكومة المشيشي في محاولة للسيطرة على ’’رجل ظل الرئيس‘‘. ومنذ البداية كانت الاتهامات مجرد تقاذف إلكتروني بين أنصار هذا الفريق وذاك لكن رئيس حزب قلب تونس نبيل القروي المتحالف مع حركة النهضة الإسلامية نقل هذا الصراع إلى المشهد الرسمي حيث قال الثلاثاء الماضي، يوم منح المشيشي الثقة، ’’سنغير الوزراء الذين عينتهم نادية عكاشة‘‘ متهما المرأة بتوجيه سياسات القصر الرئاسي ومعه خيارات رئيس الحكومة.
وفي تصريح لـ”العرب” يقول مصدر مقرب من محيط عكاشة إن السيدة لها خلفياتها السياسية، وهذا مؤكد، ”لكن الحديث عن أنها حاكمة قرطاج فيه الكثير من المبالغة. وهي لها دور بالنظر إلى مركزها لا أكثر‘‘.
ويُضيف المصدر الذي رفض الكشف عن هويته ’’شخصيا درست عند عكاشة وكانت لي معها لقاءات عديدة تمكنت من خلالها من فهم وعيها السياسي ونحن أصدقاء.. المرأة قد تخطئ لكن أن تكون الحاكمة بأمرها في قرطاج فهذا يبقى مجرد اتهامات في إطار الأجواء المشحونة سياسيا.. بالإضافة إلى ذلك فإن قيس سعيد ليس من الشخصيات التي تقبل إملاءات من أي جهة‘‘.
ومن جهته يقول رياض جراد، الناطق الرسمي باسم الاتحاد العام لطلبة تونس، ’’عكاشة هي مديرة الديوان الرئاسي فقط. مركزها يحتم على الرئيس التشاور معها بشأن خيارات وسياسات القصر‘‘. ويضيف ”الإخوان (النهضة) يريدون تشويهها كما فعلوا تاريخيا مع نساء تونس الذين تألقوا لا أكثر، أما هي فشخصية ناجحة ولها مسيرة مميزة فهي اختارها الاتحاد الأوروبي في الفترة بين 2011 إلى 2014 لتكون مستشارته القانونية لمراقبة الانتخابات وهي في العقد الثالث من العمر‘‘.
ويتساءل جراد مضيفاً ’’هل ذنب المرأة أنها قريبة جدا من الرئيس؟ هي موثوقة جدا لدى سعيد ما جعلها اليوم مديرة ديوانه، وهي تمثل توجهات الرئيس. لم يتعودوا على مستشارة ترافق الرئيس الذي يريدون أصلا تحقيره‘‘.
بالرغم من أن الحملة على عكاشة كانت ضارية، في بلد ينعم بالحرية وجعل جل المتدخلين في الشأن السياسي من صحافيين وناشطين سياسيين يدلون بدلوهم في الخلاف القائم حول شخصية عكاشة، التزم القصر الرئاسي ’’صمت القبور‘‘ إلى أن تم منح الثقة لحكومة المشيشي، في جلسة استمر فيها الطعن في مصداقية عكاشة والرئيس.
أسرار قصر قرطاج
البعض يرجّح أن يكون سعيد، ذاته، أسهم في الحملة التي مورست ضد عكاشة بطريقة أو بأخرى
خرجت رشيدة النيفر، المكلفة بالإعلام في رئاسة الجمهورية، لتفند ما قيل عن عكاشة مؤكدة أن الأخيرة واجهت هجمات متتالية لأنها “امرأة” تمكنت من الوصول إلى أعلى هرم في الدولة.
وأكّدت النيفر في تصريح لإذاعة محلية أنّ ديوان سعيّد يضم كفاءات في العديد من المجالات الدبلوماسية والاجتماعية والاقتصادية ”والفريق ثلثه من النساء وهو اختيار من رئيس الجمهورية لإعطاء الفرصة لتكون المرأة حاضرة عدديا ونوعيا“، مشيرةً إلى أنّ حملات التشكيك والهجوم على عكاشة وكلّ الديوان مأتاه أن الفريق يعمل في تضامن وصمت، وهو ما فتح الباب للعديد من التأويلات والادعاءات واستغلال بعض الأطراف لغياب ناطق رسمي للردّ عليها، حسب تعبيرها.
ويرجح البعض أن يكون سعيد أسهم في الحملة التي مورست ضد عكاشة بطريقة أو بأخرى، خاصة بعد استقباله للأحزاب عشية توجه المشيشي إلى باردو، مقر البرلمان، لنيل الثقة. وتم الترويج وقتها لفكرة تقول إن سعيد طلب من الأحزاب إسقاط الحكومة، وهو ما جعل الأقاويل تتضاعف بشأن مصداقية هشام المشيشي ومدى تدخل عكاشة في تركيبة حكومته. وبالإضافة إلى المزاعم التي أثيرت بشأن تدخلها في مسار تشكيل الحكومة، تُتهم عكاشة بأنها كانت وراء نقلة زوجة سعيد (وهي قاضية) إلى صفاقس في محاولة لإبعادها عنه. ولم يتسن لنا الحصول على رد رسمي من رئاسة الجمهورية بشأن هذه الاتهامات.
وبصرف النظر عمّن يمتلك الحقيقة المطلقة بخصوص ما يدور في دهاليز قصر قرطاج الرئاسي، فإن الجدل الذي يدور بشأن عكاشة لن ينتهي إلا بانتهاء الأزمة بين الرئيس والأحزاب ولاسيما حركة النهضة الإسلامية التي دأبت على تشويه خصومها منذ ثورة 14 يناير بأي طريقة كانت، سواء باتهامهم بالتبعية للنظام السابق أو بمحاولة تقويض الانتقال الديمقراطي وغير ذلك من الاتهامات.
المصدر : العرب اللندنية