كتب : وسام كيروز كاتب رأي
شيء من العبثية في مأساة لبنان. بلد مريض، فاسد، مفلس، منقسم، ومن دون سلطة، وفي اللحظة التي لامس فيها البلد الضعيف ما ظن أنه القاع، لم تأته مجرد مصيبة أخرى. بل ما يشبه القنبلة النووية دمر وجه عاصمته، وجه البحار القديم كما تقول الأغنية. مأساة تتأرجح بين السريالية والعبثية. وفي وحشة العبثية، يتلقى لبنان من “الأم الحنون” فرنسا، صفعة وجودية: “قد تزول يا لبنان”.
الحقيقة أن لبنان تأرجح في قرنه الأخير، في المئة عام التي اعتبر فيها دولة ببعض الحدود والكثير من الوعود، تأرجح كثيراً بين الأزلي والزائل. هو تارة وطن النجوم في عرف إيليا أبو ماضي، والصخرة التي علقت بالنجم في أبيات سعيد عقل الموغلة في الجمال والشوفينية بنفس القدر. وهو البلد المصطنع المقتطع الذي انتفض كثير من أبنائه على وجوده أو هجروه، فلم يكن أحياناَ في عرفهم عربيا بما فيه الكفاية، أو سورياً بما فيه الكفاية، والأخطر، لم يكن وطنا بما فيه الكفاية.
في هذا الفراغ بقلب الكيان، مرّر ياسر عرفات طريق القدس عبر جونية، لم يصل قط إلى القدس، لكنه فصل جونية عن بيروت، ثم غادر من طرابلس. في ذلك الفراغ العميق أيضا، أحرق شيوعيو الحرب الأهلية الأرزة الخضراء لينصبوا سنديانة حمراء. هدأت تلك الشياطين بعد اتفاق الطائف، ولم تمت.
لكن لبنان ذلك، كان جميلا. كان فريدا. اسم بيروت فيه شيء من الرومانسية. اسمها يعني الحرب، ويعني الحب، ويعني المقاهي الأدبية. اسمها يعني حانات الجواسيس في الفنادق القديمة، ويوحي بسيدة تتأنق كل يوم لموتها، لكنها لا تموت. قرى لبنان متناثرة مثل رمانة مفتوحة، كما وصفها الشاعر الفرنسي الرومنسي لامارتين. كان مسيحيا بما يكفي ليكون خارج السرب، ومسلما بما يكفي ليكون مع الباقين في الشرق العربي. بشكل ما، كانت تلك الفرادة علة وجود كافية.
لكن ذلك الفريد لم يعد يثير الحماسة. لولا انفجار بيروت المذهل ، لما كان العالم يأبه كثيرا. جاء في مقالة لصحيفة لوموند ذلك الكلام الموجع، قبل الانفجار: “ليس للبنان أصدقاء. ليس للبنان أعداء. لم يعد يحصد لبنان إلا اللامبالاة”. في مكان ما، فقد لبنان أغلى ما عنده: صورته. فقد شعور الآخرين تجاهه بأنه مميز. وهذا حقيقي، فالمميز فيه ما انفك ينكفئ. صوت زعماء الطوائف، المسلحة وغير المسلحة، مسموع، أما سعيد عقل، فمات، قبل أن يجترح معجزة شعرية أخرى لترميم مقدار الأسطورة في الوطن. فراغ الدولة مدوّ، متاحفه مقفرة، فنادقه مقفلة، مصارفه مفلسة، صحافته مهترئة، صحفه أغلقت الواحدة بعد الأخرى. رحل غسان تويني، لم يبق إلا البعض القليل.
لكن هل يمكن أن يزول لبنان؟
لبنان ترفده الأسطورة، وتنبذه الأرقام. ترسمه النصوص القديمة وأغاني فيروز، وترفضه معايير صندوق النقد الدولي. جاء في سفر نشيد الأناشيد، في الكتاب المقدس للمسيحيين واليهود:
“هلمّي معي من لبنان يا عروس، معي من لبنان”. ذكر لبنان في التوراة 70 مرة أو أكثر. وعد ملك فرنسا وقديسها لويس التاسع، في عهدته الشهيرة الموقعة في عكا، في 24 مايو 1250، وعد موارنة لبنان بالحماية الأبدية. ذكر لبنان وجباله في شعر المتنبي “عقاب لبنان، وكيف بقطعها، وهو الشتاء وصيفهنّ شتاء”.
لكن اسم لبنان ليس على مؤشرات التنمية البشرية.
يمكن للفكرة الجميلة أن تستديم الوجود في واقع مضطرب، لكن ليس من دون حدود. ظن اللبنانيون طويلا بأنهم في مركب لا يمكن أن يغرق. تحول صمود اللبنانيين بدوره إلى أسطورة سامة.
وهم البلد الذي لا يموت، لعنة طائر الفينيق، كل تلك الأدبيات التي رددها اللبنانيون في حروبهم وفشلهم وسقطاتهم، كلها خطيرة وقاتلة. أبناء لبنان لا يعيشون فوق خط الفكرة، بل تحت خط الفقر. إنقاذ لبنان من الزوال هو خطط وأرقام ونصوص دستورية يجب أن تتغير. تجنب موت لبنان ليس محسوماً، فالأزمة في لبنان بدأت منذ عشرة أشهر. ماذا تغير؟ لا شيء. هل مات لبنان؟
عن عمر يناهز مئة عام؟ الجواب مع شيء من السحر في هذه الأبيات لطلال حيدر، باللهجة اللبنانية:
“في ناس قالوا قتل،
في ناس قالوا مات،
وفي ناس قالوا،
فتح عتمة خيالو
وفات”..
نقلا” عن العربية نت