أحمد حافظ
تطالب الحكومة المصرية إثيوبيا بالحافظ على مجرى النيل التاريخي لكنها في المقابل لا تتوانى عن انتهاكه، فمن معركة أصحاب العوامات إلى إنشاء ممر داخل النهر خاص للمواطنين في منطقة الزمالك القريبة من وسط القاهرة دون توضيح رسمي عن الأهداف والأسباب، ما أثار حفيظة البعض معتبرين ذلك انتهاكا للنهر.
صورة واحدة التقطت لممشى يجري تنفيذه داخل ممر نهر النيل في القاهرة كانت كفيلة بإثارة موجة غضب واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي جراء المحاولات المتكررة من جهات حكومية للتعامل مع النهر باستخفاف، وبطريقة قد تثير الاستفزاز كثيرا دون مراعاة لتداعيات ذلك، بيئيا وثقافيا وتاريخيا وحتى سياسيا.
وفي الوقت الذي تشكو فيه القاهرة من تأثيرات مشروع سد النهضة الإثيوبي على تدفق مياه النيل إلى البلاد، استيقظ مصريون على مشروع جديد تنشئه الحكومة يتكون من ممر خاص للمواطنين بطول منطقة معينة وليس بعرض نهر النيل كما هو معتاد.
والممر عبارة عن ممشى في منطقة الزمالك القريبة من وسط القاهرة، ويتم تنفيذه من دون توضيح رسمي عن الأهداف والأسباب والدوافع التي يمكن أن تستند عليها الجهات الرسمية لما يعتبره مواطنون “عبثا” بنهر النيل، خاصة وهي تخوض معركة شرسة مع الجانب الإثيوبي بشأن الحفاظ على المياه.
بعد معركة العوامات
يرتبط الجدل المجتمعي بأن المنطقة التي تنفذ فيها الحكومة الممشى النيلي تمثل لأغلب سكان القاهرة جزءا من الإرث الثقافي للعاصمة المتجذر في عقول أجيال عديدة، ولا يتخيل أغلب الرافضين للفكرة أن يستيقظوا يوما ويجدون ممرا بطول النهر وقد أصبح يحتضن ممشى خرسانيا وأعمدة صلبة.
خاضت الحكومة المصرية العام الماضي معركة شرسة مع أصحاب المنازل العائمة على نهر النيل في منطقة قريبة من الزمالك أيضا، وبررت إزالتها بأنها تشوّه مجرى النهر وتؤثر سلبا على حركة المياه، ولا بديل عن توسعة المجرى في هذه المنطقة، واستندت إلى أن سكان أو أصحاب العوامات لم يحصلوا على تراخيص لها، رغم أنها موجودة منذ عقود، ما جعل رواية الحكومة محل ريبة من قطاعات عديدة.
وتقوم مؤسسات حكومية، غير معلوم هويتها، الآن بإجراءات مماثلة، في تناقض واضح بين الأهداف المعلنة والخفية من وراء تشييد ممشى في مجرى نهر النيل، وهو الذي تعامل معه قدماء المصريين بقدسية، فيما يعاني مؤخرا من تعديات وتشويه حوله بممر مائي ضيق بسبب كثرة المخالفات والتعديات الحكومية.
بات الكثيرون من سكان القاهرة يعيشون، خاصة من القاطنين في المنطقة القريبة من إنشاء الممشى النهري، حالة من الاستياء، عبّر عنها أيمن مجدي، وهو طبيب يعيش في حي الزمالك الراقي الواقع على الضفة الغربية من النهر، بتأكيده أن الناس يعانون من الاستيلاء على جزء من النهر، وكانوا يتنزهون بالقرب منه ويشاهدون انسيابه.
ولدى الكثير من الرافضين لتحول نهر النيل إلى مجني عليه من جانب الحكومة قناعة بجهل البعض من المسؤولين عن المشروعات النيلية الجارية في الممر المائي بالقيمة التاريخية والثقافية والنفسية التي يعنيها النيل للمصريين.
وقال الطبيب أيمن لـ”العرب”، “نشأنا وتربينا على احترام النيل وتقديسه والوفاء له، وبدلا من أن تكون الحكومة قدوة للمواطنين، ترمي فيه كتلا من الإسمنت”.
وتساءل المواطن الطبيب بطريقة متهكمة، “ماذا ستقول مصر لإثيوبيا وهي تعبث بالنهر ثم تعرب عن غضبها من محاولاتها تعطيش المواطنين بسبب سد النهضة، هذه دعاية سلبية عن بلادنا كونها تعتدي على نهر النيل الذي هو شريان الحياة للشعب، لكن للأسف لا يمكن الوقوف بوجه المزيد من العبث بالنهر طالما أن النخبة من المفكرين والأدباء والسياسيين، والبرلمان معهم، صامتون أمام تشويه النيل”.
تساؤلات
طرح وزير الري السابق محمد نصرالدين علام التساؤلات نفسها تقريبا، مضيفا عبر حسابه الشخصي على فيسبوك، وهو يعلق على صورة الممشى الواقع داخل نهر النيل، “لا أدرى ما هذا الشيء، وما الهدف منه، هل هناك تصريح رسمي من وزارة الري به، وبنشر هذه الصورة ماذا نستطيع أن نطالب به إثيوبيا، هل نطالبها بما نعجز نحن عن تحقيقه، وإذا كان هناك تصريح رسمي يجب نشره سريعا قبل استخدام هذه الصور ضد مصر والمصريين”.
وأوضح الوزير السابق الذي تحدثت معه “العرب” هاتفيا، أن رأيه في الموضوع أوضحه على حسابه الشخصي، وليس لديه ما يضيفه.
وقال نصر علام، “حسب معلوماتي، فإن مشروع ممشى مصر لم يأخذ تصريحا رسميا من وزارة الري، وقانونا يجب على الجميع وأجهزة الدولة أولهم عدم المساس بل عدم التفكير في أيّ مشروع في حرم النهر وليس داخل النهر فقط إلا بموافقة الوزارة ودراسة المشروع في معاهد الوزارة البحثية، وكل ذلك لم يتم، ويجب إيقاف ما يحدث على الفور، للدراسة والتأكد من عدم الإضرار بالنهر، وليس منطقيا وقف اعتداءات الأهالي على النهر وأجهزة الدولة تفعل ما تشاء”.
وأكدت سهير زكي حواس أستاذ العمارة والتصميم العمراني ورئيس الإدارة المركزية للدراسات والبحوث والسياسات بالجهاز القومي للتنسيق الحضاري أنه “يستحيل وجود موافقات رسمية من أيّ جهة مسؤولة عن نهر النيل لإنشاء ممشي داخل المياه، لأن ذلك يحمل مخالفة صريحة لكل القوانين المصرية ويفترض أن تكون هناك دراسة مسبقة من جهاز التنسيق الحضاري لمثل هذه المشروعات، لكن ذلك لم يحدث”.
وأوضحت لـ”العرب”، أنه في تسعينات القرن الماضي كانت هناك خطة حكومية لتطوير وتحديث كوبري أبوالعلا التاريخي القريب من منطقة الزمالك، وتبيّن أن ذلك سيحتاج إلى بناء عامود خرساني بجوار شاطئ النهر، لكن المشروع توقف تماما، بعد أن رفضت وزارة الري وجهاز التنسيق الحضاري مجرد التفكير في وجود أجزاء خرسانية بجوار الشاطئ، وليس داخل النهر.
وقالت، “للأسف، هناك مؤسسات باتت تستبيح العبث بنهر النيل، وهناك نحو ثلاثة كيلومترات على نيل القاهرة محاطة بالتعديات، وتوجد نية لإنشاء مطاعم وجراجات سيارات ومقاه، وتمت إزالة الأشجار الموجودة في المنطقة، مع أن المكان عبارة عن جزيرة شكلها نهر النيل بنفسه عبر التاريخ، حتى أصبحت محمية طبيعية يفترض تحصينها لا تدميرها”.
ما أثار شكوك الكثير من المتابعين حول قرار إنشاء ممشى خرساني داخل نهر النيل أن المؤسسات الرسمية المختلفة بدت مرتبكة أمام تفسير ما يحدث، وهل هذا تطوير لم تتضح ملامحه النهائية بعد أم إعادة هيكلة للمظهر الحضاري للنيل، لما تمثله المنطقة من قيمة سياحية وترفيهية يجب الاستفادة منها دون الإضرار بالممر المائي.
وتؤكد الأزمة الراهنة أن المشكلة الأبدية للحكومة تكمن في افتقادها تقديم الخطاب المقنع للناس عند أيّ مشكلة لها أبعاد جماهيرية، فهي تبدو غير صريحة، مع أن بإمكانها أن يكون خلفها ظهير شعبي قوي إذا تحدثت بواقعية عن طبيعة المشكلة وأبعادها وما تخطط له بالضبط، فالأغلبية أشادت بما أنجزته الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة في مشروع “ممشى أهل مصر” على الضفة المقابلة، وجعلت منه متنفسا للكثير من فئات المجتمع على نيل القاهرة، لكن الحكومة تفسد المنجزات بافتقاد الرشادة.
ومنح الصمت الحكومي المريب لبعض الأصوات المعارضة أن تستثمر في المشهد المسيء للنهر بغرض تشويه صورة النظام الحاكم برمته، على اعتبار أن هناك حالة إدمان واضحة لإنشاء الطرق والكباري والجسور والمحاور، وقد لا تكون هناك ممانعة من وصولها إلى النيل، وهي اتهامات لم تتحرك الحكومة لنفيها أو الرد عليها بشكل علمي، كونها ليست بالسذاجة التي تجعلها تتعامل مع النيل بطريقة عبثية، بل واضح أن لديها خطة تطوير واسعة تجعل النهر يجلب منفعة سياحة كبيرة.
ويرى متابعون أن حالة الغضب التي تصاعدت على وقع تحرك الحكومة لإنشاء ممشى داخل النيل، رغم أنها من قررت إزالة العوّامات بدعوى أنها تشوه المظهر الحضاري، تبدو منطقية ولها أسبابها عند المواطنين، طالما أن هناك غيابا للشفافية والمصارحة من الجهات الرسمية المتباينة وصمتا غير مفهوم لشرح المبررات، في حين أنه قد تكون هناك أهدف خفية لجعل المنطقة جاذبة بشكل أكبر، سياحيا وترفيها، لكن الحكومة مصرة على خلق فجوات جديدة مع الشارع.
وحسب معلومات حصلت عليها “العرب” فإن المخطط لضفتي نيل القاهرة، ومن بينها المنطقة التي يقام فيها الممشى المائي الجديد، يرمي إلى أن تتحول الجهتان الشرقية والغربية إلى ممشى لعموم المصريين مع الاستفادة من التطوير المرتقب في إنشاء منطقة ترفيهية ضخمة، وهناك رغبة حكومية في تحويل الضفتين إلى مقصد أو مزار جاذب للسياحة، جزء منه برسوم قليلة للمواطن المحلي، والآخر للعرب والأجانب برسوم مرتفعة، كجزء من الاستغلال الاقتصادي للمظهر الجمالي للنيل.
المساحات المفتوحة
وتسعى الدولة لزيادة المساحات المفتوحة للتنزه على النيل عبر الاستفادة من مقومات السياحة التي تمتلكها المنطقة بما يمثل نقلة حضارية في المجال السياحي النهري، ما يجعله يستهدف جذب قطاعات عريضة من سكان القاهرة الكبرى، والتي تتكون من محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية، بحيث يتاح لهم رؤية جديدة لنهر النيل.
ونفذت الحكومة المرحلة الأولى من “ممشى أهل مصر” على الضفة الشرقية من نهر النيل، القريب من مقر اتحاد الإذاعة والتلفزيون ومقر وزارة الخارجية وحتى كوبري قصر النيل التاريخي، وتسعى إلى التوسعة بالاستحواذ على مساحة واسعة من الضفة الغربية المقابلة، وتحتضن الممشى المائي محل الغضب الحالي، لكن الحكومة لا تزال تخفي التفاصيل.
تنفيذ ممر في نهر النيل بمنطقة الزمالك القريبة من وسط القاهرة دون توضيح رسمي عن الأهداف والأسباب والدوافع
ويبني معارضون للمشروعات على شاطئ نهر النيل أو داخله وجهات نظرهم بأن الحكومة يفترض أن تكون لديها رؤية مستقبلية بشأن الفيضانات المحتملة، لذلك لا يفترض، قانونا وحضاريا إقامة منشآت داخل النهر إلا بعد التأكد من ضرورتها، وعدم تأثيرها سلبا على المجرى ومنشآته، والمعضلة أنه لا توجد جهة واحدة استشارية أعلنت مسؤوليتها بالتخطيط والدراسة عن هذه المشروعات، والتي تنفذ غالبيتها أو تشرف عليها الهيئة الهندسية التابعة للجيش.
ويتضمن المخطط تغيير المظهر العام لكل المناطق المطلة على نهر النيل لمواكبة رؤية مصر 2030 حول التنمية المستدامة وتوسيع المساحات الخضراء والمتنزهات والمناطق الترفيهية الواقعة على شاطئ النهر، أي أن هناك أسبابا وجيهة ومقنعة وفوائد مستقبلية للناس من المشروعات النيلية التي تنفذها الحكومة، وتظل المعضلة في رفضها المصارحة وفرض الأمر الواقع، مع أن الرئيس عبدالفتاح السيسي لا يتردد في حسم أيّ جدل مثار على الفضاء العام قبل أن يتحول إلى أزمة قد يكون مصدرها معلومات مغلوطة.
ومن غير المتوقع أن تتراجع الحكومة بسهولة عن إتمام مشروع الممشى النيلي، لأنها تبدو مقتنعة بوجهة نظرها بأن ما يحدث في النهر تطوير، لذلك لا تهتم برأي المتخصصين والخبراء والمعنيين بالتنسيق الحضاري، وفق الباحثة سهير حواس.
وقد تدفع الحملة الإلكترونية التي دشنها مصريون من فئات مختلفة دفاعا عن تاريخ النهر وقدسيته دوائر صناعة القرار السياسي لمراجعة الموقف بسبب ارتفاع حالة الغضب على منصات التواصل، والتي دائما ما تكون محل متابعة رسمية.
المصدر العرب اللندنية