عبد الكريم الحجراوي
حالة من الجدل والغضب العارم على المنصات الرقمية في مصر، صاحبت ظهور طبعات جديدة لأعمال أديب نوبل نجيب محفوظ بعد حصول “مكتبة ديوان” على حق طباعتها ورقياً، مع مقارنة أغلفتها مع الناشر الأول لنجيب محفوظ “مكتبة مصر” بأغلفة جمال قطب، ومن بعدها “دار الشروق” التي صمّم أغلفتها حلمي التوني، بين 2005 و2022.
ثمّ تعاقدت ابنة الراحل مع مؤسسة هنداوي على نشرها إلكترونياً، وجاءت أغلفة مؤسسة هنداوي للأعمال الروائية – حتى الآن – موحدة وبسيطة، صورة بالأبيض والأسود لنجيب محفوظ في شيخوخته. وقد عبّر كثيرون عن إعجابهم بهذا الأسلوب الذي اتبعته “هنداوي”، لأن روايات نجيب محفوظ في رأيهم لا تحتاج إلى صناعة أغلفة. فمع الكتّاب العظام مثل دوستويفسكي وغابريل غارسيا ماركيز وخوسيه ساراماغو، يكفي فقط وضع صورهم على الغلاف لتكون هي أكبر دعاية للكتاب، والأمر ذاته فعلته من قبل «دار ناشرون – لبنان» بأغلفتها الصفراء الفاتحة اللون موضوع عليها صورة أديب نوبل وكررته «دار الشروق» في الأعمال الكاملة التي وضعت عليها صورته.
هجوم شديد
تلقت مكتبة “ديوان” هجوماً شديداً على تصميمات أغلفة الكُتب التي نشرتها لطبعات جديدة لأديب نوبل، شارك فيها أربعة مصممين من الشباب أكبرهم 35 عاماً. وهي الأغلفة التي أنجزها استوديو تصميم غرافيكي باسم “40 مستقل”، وحملت توقيع المصمم المصري محمد مصطفى، ما حدا بعضهم إلى وصفها بالقبح والمؤامرة الكاملة، وتوازي حالة القبح التي تغطي الوضع الحالي الآن وانعدام الذوق، متهمين مصمم الغلاف بعدم فهم العمل، والسقوط في المباشرة والسطحية، وأنها الأضعف بين طبعات أعمال نجيب محفوظ مع ناشريه المختلفين، مطالبين دار النشر بإعادة النظر في ما تقدمه من تصميمات لأغلفة أعمال نجيب محفوظ، وخصوصاً أنها جاءت بعيدة من روح أعماله كل البعد، ومعادية للذوق والتطور في صناعة الأغلفة.
ومن ذلك ما نشرته الكاتبة والروائية المصرية بسمة عبد العزيز على صفحتها على “فايسبوك”: “أغلفة الطبعات الجديدة من أعمال نجيب محفوظ متناغمة تماماً مع المشهد العام، وفي حال من التكامل والاتساق مع أوضاعنا السياسية والاجتماعية، وأظنها تصبح في ما بعد شاهداً من شواهد تحطيم الجماليات وهدم المعقول”.
الغلاف المحفوظي وتطوّره
يفتح هذا الجدل السؤال عن تطور أغلفة كتب نجيب محفوظ بين دور النشر المختلفة التي تولّت طباعة أعماله، ودلالة الغلاف في كشف هوية ومضمون عالم نجيب محفوظ.
ففي النقد الأدبي هناك فرع نقدي كامل قائم على دراسة الأغلفة وما تضمه من عناوين وصور وأشكال وكتابة يُعرف بعتبات النص. وأفرد له جيرار جينيت – Gérard Genette (1930- 2018) كتابًا كاملًا باسم عتبات.
ويشير مراد عبد الرحمن في كتابه “جيوبولوتيكا النص الأدبي” إلى دور تصميم الغلاف في تشكيل البعدين الجمالي والدلالي للنص، إذ إن تصميم الغلاف لم يعد حلية شكلية بقدر ما هو يدخل في تشكيل تضاريس النص، بل أحياناً يكون هو المؤشر الدالّ إلى الأبعاد الإيحائية للنص (ص124).
ففي تصميمات أغلفة نجيب محفوظ، اختارت كل دار نشر مدرسة مختلفة عن الأخرى.
فانتمت أغلفة جمال قطب إلى الواقعية التعبيرية التي كان يعبّر من خلالها عن مضمون العمل المحفوظي مجسدًا حوادث العمل الروائي، فيما جاءت رسوم دار الشروق للتوني ببعد رمزي وإيحائي يشير إلى عوالم نجيب محفوظ الشعبية ويتماشى مع روحها، وذلك كرؤية بصرية جديدة تختلف عن رؤية مكتبة مصر.
فيما اختارت “هنداوي” غلافاً يتمتع بالبساطة الشديدة والمباشرة باللونين الأبيض والأسود من دون تعقيد، بصورة موحدة لنجيب محفوظ على كل أغلفة أعماله التي نشرتها حتى الآن (عشرة أعمال). وقد اعتمدت مكتبة ديوان على الغرافيك في تصميم الأغلفة والتي جاءت مباشرة في دلالاتها قريبة من صور المانجا وأفلام الرسوم المتحركة، تجسيداً للعنوان، فمثلاً غلاف “اللصّ والكلاب” عبر شخص يمسك مسدساً دلالة على اللص، وتحيط به من عند رأسه كلاب. وقد لاحظ البعض الشبه في أسلوبها بين رسومات “الكيتش kitsch” وهو مصطلح يطلق على الفن والتصميم الذي يُنظر إليه على أنه تقليد ساذج أو غير مبرر أو ذوق عادي، وتحيل إلى منتجات ثقافة البوب التي تفتقر إلى عمق الفنون الجميلة.
اسم الكاتب ودلالة الخط
وتشكل أنواع الخط الذي تكتب به عناوين الكتاب الرئيسية والفرعية واسم المؤلف دلالة مهمة، تساهم في تأويل النص وتحديد هويته، فهو من العناصر البصرية التي تحظى بمكانة خاصة مع تطور وسائل الطباعة في الوقت المعاصر، من حيث نوع الخط وشكله وحجمه، إلا أن هذا الجانب لم يلتفت له نقدياً في الوطن العربي على أهميته الكبيرة، رغم أهمية أشكال الخط وأنواعها وغناها الدلالي والجمالي نتيجة لغناء الخط العربي وتنوعه، كما أنها تعطي دلالات مهمة في تأويل النص ولا يكون اختياره عادة عشوائياً بل للإحالة إلى معانٍ معينة ومقصودة.
التّسويق
وتنوعت الخطوط وأحجامها التي كُتب بها اسم نجيب محفوظ وعناوين الروايات تبعًا لرؤية كل دار نشر في التسويق، فاسم الكاتب في الدرس النقدي، كما يذكر عبد الحق بلعابد في كتابه “عتبات”، “من العناصر المهمة التي لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها، لأنه العلامة الفارقة بين كاتب وآخر، فبه تثب هوية الكتاب لصاحبه ويحقق ملكيته الأدبية والفكرية على عمله دون النظر للاسم إن كان حقيقًا أو مستعاراً” (ص63).
وفي كتابة اسم المؤلف والعنوان على الغلاف هناك خطوط تفضل على أخرى، وأخرى تشيع من زمن لآخر لدلالات معينة، سواء أكانت تلك الدلالات مرتبطة بنوع الخط نفسه بأنه يعبّر مثلاً عن الأصالة والقدم، أو جمالية وفنية وغيرها من الأمور، وهذا ما يشير إليه الخطاط والباحث في فن الخط العربي المصري محمد شافعي بأن “الخط الفارسي والديواني يعبران عن الليونة والانسيابية، إلا أن الفارسي ليونته متزنة وفيه شيء من الأصالة، لذلك كان يكتب به قديماً متن دواوين الشعر. ويضيف أن اختيار كاتبة اسم نجيب محفوظ بالخط الفارسي في طبعة مكتبة مصر موفق جداً في حالة نجيب محفوظ. وإن كان الديواني أفضل في اسم المؤلف في المجمل، لكن اختيار الفارسي لكتابة اسم نجيب محفوظ كان أنسب لتعبيره عن الأصالة”.
التّسويق بالاسم
واتجهت دور النشر اتجاهين في كتابة اسم نجيب محفوظ. هناك دور نشر أعطته الأولوية تلك الحقبة، والفئة بدأتها «دار الشروق» التي جعلت اسمه بخط كبير ومن تحته يأتي اسم الرواية بحجم صغير، وتبعها في ذلك النهج مكتبة ديوان وفيهما يطغى اسم نجيب محفوظ على عنوان الرواية. ولجائزة نوبل دور في ذلك، وأسهمت في ارتفاع مقروئية نجيب محفوظ وشهرته وجعله اسماً يحرّض على القراءة وجاذباً للجمهور.
والفئة الثانية وهي الأقدم، ما قام به ناشر نجيب محفوظ الأول مكتبة مصر، وكذلك مكتبة لبنان (ناشرون) في المؤلفات الكاملة التي أعطت الأولوية لعنوان العمل، وجاء اسم المؤلف في حجم أصغر.
وتنوعت الخطوط التي كتب بها اسم نجيب محفوظ واختلفت من دار إلى أخرى، فعلى غلاف “المؤلفات الكاملة لنجيب محفوظ” في مكتبة لبنان (ناشرون) بيروت، والتي طبعت في التسعينات، وضعت صورة لنجيب محفوظ على غلاف أصفر فاتح، فيما كتب اسم المؤلف والأعمال الكاملة بالخط الكوفي الفاطمي قريب الشبه من الكوفي المملوكي، وهو ذو دلالة مهمة تتعلق بعالم نجيب محفوظ الذي كتب عنه في أعماله، حيث عاش في حي الحسين والجمالية والقاهرة القديمة التي ارتبطت بها أعمال نجيب، وارتبطت أيضًا بمؤسسيها من الفاطميين، والتي حكم منها المماليك. فاختيار الخط لم يكن عبثيًا بل ليعطي دلالة مهمة على عصر وزمن ودال على مضمون الكتابة نفسها.
عنوان الرّواية
وهذا النهج هو الذي سارت عليه مكتبة الديوان التي اختارت الخط الثلث المملوكي لاسم نجيب محفوظ، ليعطي الدلالة ذاتها حول عوالم نجيب محفوظ التي كتب عنها، لكن اشتكى القراء من تداخل النقاط وعدم سهولة قراءة الاسم وتداخله.
فاهتمام دار الشروق وديوان كان تسويقياً في المقام الأول من خلال اسم نجيب محفوظ. وذلك على عكس طبعات مكتبة مصر التي يظهر فيها اسم نجيب محفوظ بالخط الفارسي صغيراً وموحداً على جميع الأغلفة دون تغيير، مقارنة باسم الرواية الذي استخدمت فيه خطوط متنوعة من خط ديواني، كما هو في رواية “ليالي ألف ليلة” والخط الحر لاسم رواية “الحرافيش” ورواية “اللص والكلاب”، والخط حر لا يحتكم إلى قاعدة من القواعد الكلاسيكية للخط العربي، وفي رواية “قصر الشوق” كتبت بخط الرقعة بطابع حر..
وفي نسخة مؤسسة هنداوي الإلكترونية، جاء اسم نجيب محفوظ أكبر حجماً من العنوان الذي كتب فيه اسم محفوظ والرواية بخط الكمبيوتر دون صبغة فنية أو تدخل لأي خطاط في كتابتها، وكذلك عنوان الرواية في طبعة مكتبة ديوان الحديثة بخط طباعي. بينما في طبعة الشروق جاء عنوان الرواية بالخط الفارسي خطاً موحداً للروايات، ذلك الخط الذي كانت تمنحه مكتبة مصر لاسم نجيب محفوظ لا لعنوان رواياته للدلالة على مضمونها.
الأصالة
واهتمت مكتبة مصر في أعمال نجيب محفوظ بتفاصيل الغلاف بالاستعانة بفنان كبير لرسمها، وكذلك الخطوط التي كتبها الخطاط الشهير مصطفى لطفي، وفي هذا الصدد يذكر شافعي أن مكتبة مصر “استعانت بخطاط كبير ومشهور في تلك الفترة لأعمال نجيب محفوظ، وهو الخطاط مصطفى محمود المشهور بمصطفى لطفي، وهو خطاط رئاسة الجمهورية وأول مدرسة تحسين الخطوط الملكية عام 1951م، واشتهر في كتابة الأغلفة والعناوين الداخلية للكتب وغيرها من أعمال الزنكوغراف بجانب عمله في رئاسة الجمهورية، حتى وصل لمدير ديوان الخطوط والأوسمة وترك الكثير من الأعمال الفنية المنشورة”.
ويضيف “مكتبة مصر اهتمت بالرواية والتعبير عنها بالخط والرسم، عكس مكتبة الشروق التي اهتمت ببيع اسم نجيب محفوظ قبل اسم الرواية، لذلك يظهر الفرق الشاسع بين حجم اسم المؤلف واسم الرواية بين المكتبتين”.
ويعتقد شافعي أن “دار الشروق” استعانت بمصمم هو الذي أشرف على الخط والرسم، ومن الوارد أن يكون استعان المصمم بخطاط معه. ويلفت إلى أن هناك شيئاً غريباً في خط الثلث الذي اعتمدته الشروق لاسم نجيب محفوظ في طباعتها، وهو يتعلق بأنه جاء دون تشكيل، ومنبع الغرابة أن خط الثلث من الخطوط التي تعبر عن الأصالة والقدم، وكان يستخدم قديمًا في كتابة المصحف الشريف، ولما حل مكانه خط النسخ أصبح يكتب به أسماء الصور ورقم الجزء وبداية الربع واكتمال الحزب وغيرها ما يكتب في هوامش المصاحف المطبوعة حاليًا، ويعتبر الثلث أحد أجمل الخطوط، لذلك كثر استخدامه في الأعمال الفنية أكثر من الأعمال التجارية، ويعتبر استخدام خط الثلث في أغلفة الكتب له خصوصية مع الكتب الدينية، ولا يكتب الثلث إلا بالتشكيل، والغريب أنه كُتب اسم نجيب محفوظ على غلاف الشروق بدون تشكيل.
ويردف الشافعي: “لا أدري أذلك دون قصد أم أن للمصمم رؤية مختلفة؛ لكنه من الصعب أن يكونوا قد استعانوا بخطاط وكتب الثلث دون تشكيل وتركه كما نراه في الغلاف، لذلك من المرجح أن للمصمم دوراً أكبر في خطوط الغلاف”.
فيما استعانت “ديوان” بخطاط صمم لها اسم نجيب محفوظ وطبع بهيئة واحدة على جميع الروايات، أما عنوان الرواية فجاء بخط طباعي حروفه قريبة من خط النسخ. فيما اعتمدت دار الشروق الخط الفارسي في كتابة عنوان الرواية.
والجدير ذكره أنه كان شائعاً في بداية القرن العشرين وحتى قبل المنتصف استخدام الثلث في عنوان الكتاب الرئيسي، بينما يكتب العنوان الفرعي إن وجد بالنسخ أو الفارسي، وبقية البيانات كان يستخدم فيها الديواني والفارسي، ذلك مثل اسم المؤلف والدار وغيرها، وفي منتصف القرن العشرين شاع استخدام الفارسي مع الثلث في عنوان الكتاب، والديواني والفارسي في اسم المؤلف، وفي بعض الحالات خط الرقعة، وفي نهايته بدأ يظهر الخطوط الطباعية غير التقليدية الطباعية، وهي الخطوط الجاهزة مثل المستخدمة في مانشيتات الجرائد حديثًا وخطوط الورد وغيرها من برامج الغرافيك.
نقلاً عن “النهار” العربي